رابعا: التمكين ثمرة الصلاح في عمارة الأرض:
اقتضت مشيئة الله أن لا يعطي التمكين في الأرض إلا لمن امتلك الحد الأدنى من الصلاح في بناء الإنسان وعمارة الأرض، وذلك وفق السنن، التي أودعها الله في هذه الحياة ونصت عليها العديد من آيات الكتاب العزيز.
1- صلاح عمار الأرض:
أوضح القرآن بجلاء أن أحد مقاييس الصلاح الكامل هو القدرة على استعمار الأرض وفق السنن الكونية، قال تعالى:
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء:105-107) ، ولو تدبرنا هذه الآيات قليلا سنجد بروز هذه الحقيقة من خلال:
[ ص: 158 ] - بدء الآية بحرف
ولقد وهو في هذا المقام حرف تحقيق وتأكيد؛ لدخوله على الفعل الماضي.
- استخدام الفعل
كتبنا بمعنى فرضنا وقطعنا، وهو أقوى من فعل فرضنا إذ يحمل أعلى درجات الإلزام، وقد جيء به بصيغة الفعل الماضي للتأكيد على أنه أمر مفروغ من إمضائه وإيجابه.
- إبراز هذا الفرض والقطع كأمر ثابت في سائر الكتب السماوية، وهذا ما تفيده جملة:
في الزبور من بعد الذكر .
- تسمية من يلتزمون سنن الصلاح بمصطلح (عباد) وإضافتهم إلى الله
عبادي ، فهم وإن لم يكونوا مسلمين، أي لم يستسلموا لمشيئة الله الأمرية، إلا أنهم مستسلمون لمشيئة الله الكونية وهي السنن، ذلك أن من التزم بها كان من عباد الله الصالحين، تلك العبودية التي تمنح أصحابها وراثة الأرض في الدنيا دون الآخرة إلا إذا اقترنت بالاستسلام لمشيئة الله الأمرية.
- استخدام مصطلح البلاغ في التعقيب على هذه الحقيقة في الآية التالية لها:
إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين . والبلاغ يكون للأمر الجلل، فكيف إذا كان البلاغ من الله؟ وكيف إذا جاء في مقام الحديث عن العبودية الجماعية
لقوم عابدين ؟
- التأكيد على الرحمة النبوية السابغة في الآية، التي بعدها والتي لا تعم الناس فقط بل تعـم كل العوالم من الكائنات الحـيـة والـنـبـاتـات والـجـمادات:
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، كأن الآية تشير إلى أن هذه السنة
[ ص: 159 ] الربانية هي سنة عامـة تنطبق على جميـع البـشر حـتى ولو لم يكونوا مسـلمين ما داموا هم الأصلح لعمارة الأرض، وفي هذا إشارة إلى رحمة الله بالناس، حيث لم يوكل أمرهم إلى أهل الإيمان دائما؛ لأنهم قد يكونون في مراحل التراجع والضعف أقل قدرة على عمارة الأرض وأقل صلاحا في مضمار القيم الحضارية، التي تنتج للبشرية التقدم والرفاه كالعلم والعمل والعدل والفكر والرحمة والخدمة.
ولو أخذنا قيمة العلم على سبيل المثال سنجد أن العلم معيار من معايير تفضيل الله للأفراد وللأمم، فهذان داوود وسليمان، عليهما السلام، قد فضلهما الله بالعلم كما قال تعالى:
ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (النمل:15) ، ومن المعلوم أن الله إنما فضل آدم، عليه السلام، بالعلم، فقد أسجد ملائكته لآدم، عليه السلام، تقديرا لما يحمله من العلم بعد أن علمه الأسماء كلها.
وإذا كان المتقدمون في ميدان صناعة الحياة والرقي الحضاري هم من عباد الله الذين منحهم الله التمكين، جزاء لتمكنهم القيمي والعلمي والأخلاقي وتفوقهم في مضمار معانقة السنن الربانية وتوظيفها لتحقيق الاستخلاف المنشود، وإذا كانت القوانين التي تقدموا بها هي من السنن الربانية في الأصل، فلماذا لا يستفيد المسلمون منهم ما داموا قد تركوها بعد أن حصروا العبادة في ميدان الشعائر التعبدية، وبعد أن جعلوا الإيمان علاقة خالصة بالله ولا دخل له بصناعة الحياة وخدمة حقوق الإنسان بمعناها الشامل؟!
2- أهمية الصلاح المتعدي:
الصلاح مفهوم نسبي، وينقسم إلى قسمين: صلاح لازم وصلاح متعدي.
[ ص: 160 ] ويحكي واقع الحال أن الغرب يمتلك ضمن منظومته الحضارية الكثير من مفردات الصلاح الـمتعدي إلى عمارة الأرض وخدمة الخلق والتي لو أخذنا بها، بجانب ما معنا من الصلاح اللازم، أي الفردي، لكنا أصحاب الصلاح الكامل، الذين يـمنـحـهم الله وراثة الأرض في الـدنيا ووراثة الفردوس الأعـلى في الآخرة.
ومن الآيات ذات المغزى في هذا المقام قوله تعالى:
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين (العنكبوت:9) أي سيدخلهم الله ضمن الصالحين لعمارة الدنيا والصالحين لوراثة الجنة وهو الصلاح الكامل، وهذا ينطبق على شطري العبادة اللازمة والمتعدية، فمن نقصته العبادات المتعدية كما هو حال مسلمي اليوم وجب عليه أن يأخذها بجانب الإيمان والعبادات اللازمة، ولو كان ذلك عبر الاستفادة من غير المسلمين، وفي المقابل لو أن أولئك الغربيين أخذوا الإيمان بالله والعبادات اللازمة بجانب ما معهم من عبادات متعدية إلى الناس والحياة؛ لأدخلهم الله في الصالحين الكاملين والذين يستحقون الفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة.
3- وجوب البحث عن الحقيقة:
ولأن الحكمة ضالة المؤمن فإن البحث عن الحقيقة ينبغي أن يكون حاضرا في التفاعل الحضاري بين المسلمين وبين غيرهم، فلقد علمنا القرآن درسا بالغ الأهمية في قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين (الزخرف:81) ، وهو افتراض مستحيل الصحة لأنه
[ ص: 161 ] مرتبط بأهم ثوابت العقيدة الإسلامية وهي صمدية الله، لكن القرآن يأمرنا في الحوار مع الآخر أن نفترض إمكانية وجود الصواب أو بعضه عندهم، وأن نطلب منهم أن يقدموا لنا ما عندهم من قناعات ومنجزات ومن أدلة وبراهين، ثم نترك عقولنا تفحص وتمحص بكل تجرد وموضوعية، وبعد ذلك يأتي الأخذ أو الرد، القبول أو الرفض.
وهكذا، فإن التمكين الدنيوي يكون ثمرة الصلاح في بناء الإنسان وتشييد البنيان وفق سنن الله، التي تمثل مشيئته الكونية، وهذا التمكين يسير وفق سنة الـمداولة، كما قال تعالى:
وتلك الأيام نداولها بين الناس (آل عمران:140) ، ومـن ثـم فإن المسـلمين عنـدما يأخـذون ما هـو صالـح من غيرهم إنـما يستـفـيـدون من مخرجـات سنن الله قبل أن يـعـودوا للالتـحام بـها واستثمارها بأنفسهم، كما فعل السلف الصالح عندما أخذوا أجمل ما عند غـيـرهم وأضـافـوا إليـه مـن فـكرهـم وفقـهـهم ومـن ابتـكارهم واخـتراعـهم، ما جعلهم جديرين بشهادة العليم الخبير لهم:
كنتم خير أمة أخرجت للناس (آل عمران:110).
وعندما نتحدث عن البحث عن الحقيقة ونؤكد على اقتباس ما هو نافع؛ فإن ذلك يشير إلى أن الاقتباس ليس تقليدا أعمى وأن أصحابه لا ينبغي لهم أن يخبطوا خبط عشواء، وإنما هو عملية واعية تسير وفق منهج علمي واضح، يستوعب في طياته عددا من الضوابط، التي ستكون موضوع المطلب القادم والأخير في هذه الدراسة.
[ ص: 162 ]