المبحث الأول
المدخل والإشكال والفروض
والتساؤلات المركزية
منذ أمد دعوي غير بعيد من حياتي العلمية والدعوية القصيرة جدا، وعقب قراءة أو معرفة أو سماع أو مشاهدة أو حضور مجلس علمي أو فكري أو دعـوي أو أدبـي محـسـوب على الخطـاب الديني الإسـلامي المعاصر كان -وما يزال- يتبادر إلى ذهني مجموعة من الأسئلة والتساؤلات الدعوية المركزية، يتقدمها - دون استئذان - هذا التساؤل المركزي، وفحواه:
ما علاقة هذا الخطاب الدعوي، الذي قرأته أو سمعته أو شاهدته بعلم فقه واقع الناس المخاطبين وبعلم مقاصد الشريعة، بله بالإسلام نفسه؟
وتتفرع عن هذا التساؤل مجموعة من التساؤلات المركزية الأخرى، وهي:
هل هذا الناطق باسم الإسلام مدرك وواع تمام الوعي والإدراك بتفصيلات ومنافع وآثار هذين العلمين الجليلين؟
وهل هذا الخطاب يقوم ويتأسس على حذق وتمهر بأساسيات هذين العلمين؟
[ ص: 19 ] ولماذا يصر الدعاة على اعتبار الخطاب الدعوي مجرد سرد عام وجاف للوقائع والقصص والحوادث والمواقف وعرض سطحي وانفعالي وحماسي ساخن للأحداث وللأحكام الشرعية الإسلامية؟
ولماذا يصر الدعاة على تقديم الإسلام بهذه الطريقة الحماسية والمتشنجة والموتورة؟
ولماذا يندفعون إلى حشر الإسلام في قفص الاتهام، ثم ينبرون للدفاع عنه كمتهم جان، وكأنه وأهله قد ارتكبوا ذنبا عظيما أو انحرفوا بالناس وبالحضارة وبالتاريخ عن سيرها الآفاقي السوي؟
ولماذا يقدمون الإسلام لجمهور المدعوين على اختلاف أصنافهم على أنه فروسية وشجاعة وقتال وحروب وبطولات واستعباد واضطهاد وقمع وعنف وتهميش وإقصاء، ولا يقدمونه مشروعا حياتيا نهضويا شاملا ومتكاملا ورائدا ومتميزا؟ لماذا لا يقدمونه رؤية استراتيجية آفاقية شاملة ومنقذة للبشرية المفلسة الضالة المتنكبة عن معرفة ربها؟ لماذا لا يقدمونه فتحا ونورا وعلما ورشادا في البر والبحر والجو، وفي الحاضر والمستقبل؟
وبمقابل هذه التساؤلات الدعوية المشروعة الكبرى كانت تقفز أمامي جملة من الإشكالات الأخرى، وهي:
ماذا يخسر أو يربح الدعاة دعويا لو حذقوا وتمهروا علمي فقه الواقع ومقـاصد الشريعة؟ ولماذا الاستهانة بالخطاب الدعوي المعقد والمركب
[ ص: 20 ] والمتشابك العـلـوم والمـعـارف والمـنـاهج والتـقـنـيـات والأبـعـاد الـزمـكانية والكيانية والإمكانية؟
وهل سيطور ويرقي معرفة علم فقه الواقع والمقاصد أداء ونجاح مهمة الداعية؟ وهل سيستفيد العمل الدعوي من تمكن الدعاة من علمي فقه الواقع والمقاصد، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى زيادة في البحث وتراكما في حجم وتعداد وزن الثقافة الإسلامية لا غير؟
لاسيما أن ".. كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة، إنما التفقه في المعبر عنه والمراد منه.."
>[1] ، ولأن ".. المقصد العام للشارع من تشريعه الأحكام هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم، فكل حكم شرعي ما قصد به إلا واحد من هذه الثلاثة، التي تتكون منها مصالح الناس، وجعلها قاعدة من القواعد الأصولية التشريعية، لتحقيق مصالح الناس في هذه الحياة بجلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم ما أمكن.."
>[2] ، ورفع الحرج عنهم، وتيسير أحكام الدين لهم، حتى يتمكنوا من تطبيقه والتعود عليه،
[ ص: 21 ] والاستئناس بارتفاقه والانصياع لأحكامه، والسير وفق تعاليمه الحنيفية السمحة، وبناء مدنية راقية ومهتدية، ينجحون من خلالها في وظيفتي الاستخلاف والاستعمار المنوطتين بهم رساليا وحضاريا، وينالون جراءها السعادتين الأخروية برضى ربهم عليهم وبسيادتهم الإيمانية الاهتدائية في الأرض.
وقد شكلت كل هذه التساؤلات بين علمي فقه الواقع والمقاصد مع علم الدعوة معبر فهم وتدبر، ومسار بحث ونظر وتحليل وتقييم وتقويم للرقي بالخطاب الدعوي المتعثر اليوم على الصعيدين المحلي والعالمي والتي ستسوقنا حتما لتناول الكثير من الأدلة والمواطن والوقائع القرآنية الحساسة، التي جسدت بوضوح أبعاد وآفاق وتجليات أركان العملية الفقهية الواقعية والمقاصدية والدعوية أيضا، فضلا عن تنويرات وإرشادات السنة النبوية المطهرة.
ولعل فيما شكلته تلك المواطن والأدلة أيضا مساقات دلالية لأهمية ما ذهبنا إليه، ولأجل ذلك سقنا -في الفصل التطبيقي الثالث- نتفا من أحداث ومجريات الحوار البليغ والقصير، الذي تم بين النملة ونبي الله سليمان، عليه السلام، كمحور تطبيق واستنارة مقاصدية وواقعية لما في هذين العلمين من فوائد جليلة للدعوة إلى الإسلام وحسن التعريف به، اختزلته تلك النملة في حوارها المعبر والمقتضب والمفيد والواقعي والمقاصدي الهادف، الذي ساقته سورة النمل في قوله تعالى:
حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (النمل:18-19)
[ ص: 22 ] والذي شمل أهم مقاصد وأهداف الحياة السوية، من حفظ لـ (الحياة، الدين، العقل، النفس، النسل، الوحدة، المال، العدل، الحرية، النظام، التيسير ورفع الحرج) ، وهذه المقاصد الدينية هي عين الواقع والحياة الكريمة والسوية بتمامها وكمالها، ولو زدنا في التدبر والتصفح لعلمنا ولوجدنا النظائر والأشباه المبثوثة في الآي الحكيم والسنة النبوية المطهرة الدالة على قيمة ما سنذهب إليه أيضا.
وما يجلب الاهتمام هنا، ويثري الانتباه والتمعن والتدقيق والتفكير، ويدعو الباحث الحصيف - بقوة - للتوسم والتأمل والتحليل والنظر هو: قدرة وشجاعة وبلاغة وأدب ومنطق النملة العجيبة - بالرغم من ضآلة حجمها- في إدارة حوارها الشهودي المقتضب مع شخصية غير عادية.. فالشخصية، التي حاورتها هي شخصية نبي مرسل وملك عظيم أوتي ملكا لم يؤته أحد من قبله ولا من بعده، واستطاعت النملة بكل اقتدار وشجاعة تجسيد وتحقيق مصالح قومها، وجلب المصلحة والمنفعة لهم، ودفع المضرة والمفسدة عنهم.
فكانت بذلك الحوار الصادق والجريء، وبذلك الخطاب العقلاني الشجاع والمسيج بشتى أفانين العرض الأخلاقي والتربوي والأدبي والبياني والجدلي والإقناعي البليغ خيرا من الآلاف المؤلفة من الخطباء والمتحدثين باسم الإسلام في هذا الزمان المتعثر، واستحقت أن تكون ذات حضور معلمي وبارز في الخطاب القرآني، ومضرب مثل بليغ يقتدي به الدعاة والمرشدون والوعاظ من
[ ص: 23 ] المتحدثين باسم الإسلام
>[3] على مر العصور والدهور، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هذا إذا ضممنا إليه مواقف وشجاعة الأنبياء كيوسف وموسى وهارون، عليهم الصلاة والسلام، والصالحين كرجل فرعون والذي جاء من أقصى المدينة راكضا يسعى للخير، وأصحاب الكهف والرقيم.
وحتى نصل عين المقاربات المتبصرة نعكف - بعد قليل- على تبيين المفاهيم والحدود والتعريفات اللغوية والاصطلاحية في المبحث الثاني.
[ ص: 24 ]