المبحث الثالث
معالم مرجعية أنموذجية واقعية مقاصدية
وما يدعم هذه الرؤية المقاصدية الواقعية أن كل قيم الدين الإسلامي وكل أحكامه الشرعية التطبيقية العملية تسير وفق هذه الرؤية التوحيدية الإلهية الخالصة، وتهدف منها أيضا إلى تحقيق الرؤية المصلحية لسعادة الناس في عاجلهم الدنيوي وآجلهم الأخروي؛ لأن علم المقاصد وفقه الواقع ركنان رئيسان في عملية وعي الذات الإنسانية بربها فتوحده وتعبده، وتساهم في وعي أحكام الشريعة الربانية المنزلة للبشر للارتقاء بهم، فهي الخطة الرشيدة والمشروع الحكيم والمتكامل لإحداث التغيير النفسي والذاتي والاجتماعي والحضاري المطلوب حال تفاعل مع نصوص الشرع بوعي وإدراك.
[ ص: 43 ] وذلك لأن الوعي لصيق بالإنسان، ولأن التيه والطلاسم والعمى أغلال تأسر النفس والعقل السوي، ولا تفرز لنا سوى فهما وشعورا ووجدانا وسلوكا عميا، ولأن: ".. التوحيد هو المحور الذي تدور عليه العبادات، فإذا كان مختلا أو مشوبا بالحس كانت عائدة ذلك الاختلال وتلك الشوائب على تأثير العبادة في النفس، لأن بذور الشرك والوثنية تنبت في هذا الوسط الموبوء بالأفكار القاتلة، التي جعلت مفهوم العبادة شكلا أجوف من الطقوس المبهمة، فالعبادات ليست خدمة نقدمها إلى الله كما يتقدم الكهان بالقرابين الحسية بين يدي الأوثان، بل هي خطة إلهية في الارتقاء بالنفس، وطريق قاصد إلى بلوغ كمالها، كما قال تعالى:
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد (فاطر:15) ؛ لأن كلمة التوحيد، التي غيرت العالم لم تعد تؤثر في أنفسنا؛ لأننا نحمل ميراثا مثقلا بالخرافات من رواسب التوحيد التقليدي، الذي قامت على أنقاضه الوثنيات القديمة؛ لأنه فقد روحه وتحول إلى طقوس شكلية وكلمات باهتة يتحرك بها اللسان ولكن العقل غافل عن حقيقتها، والقلب فارغ من معانيها، والضمير محجوب عن فاعليتها، والسلوك مناقض لمقتضياتها"
>[1] .
ومن هنا كان الوعي بمقاصد التنزيل، واليقظة بإحداثيات وبواقع محل التنزيل، هو المقصد الأصلي الكبير من تنزيل الشريعة على الناس، وقد حاول
[ ص: 44 ] الشيخ "محمد الغزالي" الخروج به من المسار الفقهي نحو الدروب الأوعى والأوسع له في مجال العقائد وتأثريتها الإيجابية والفعالة في النفس؛ لأن إهمال علم المقاصد وفقه الواقع ومحل التنزيل وحصره في المجال الفقهي تعطيل لفاعلية العقل والنفس السوية، ولاسيما في كتابه "فقه السيرة"، وفعل مثله الشيخ "محمد سعيد رمضان البوطي" في كتابه "فقه السنة"، متجاوزين جهود "أبو المعالي الجويني" و"العز بن عبد السلام"، و"أبو إسحاق الشاطبي"، الذين قصروه على الناحية الفقهية الشكلية فقط.
والأمثلة في ذلك كثيرة جدا نسوق مثلا من كل مصدر، أولها: من القرآن الكريم، وثانيها: من السـنة النبوية المطهرة، وثالثها: من سيرة ومنهج الخلفاء الراشـدين، رضوان الله عليهم، لنتبين من خلالها العلاقة الوطيدة بين علم فقه الواقع والمقاصـد وفقه محل التنزيل، وأثرها على تزكية ونمو النفس السوية.
- أولا: مثال قرآني مقاصدي واقعي:
النهي عن كثرة السؤال بإطلاق مع تقييده مراعاة لمقاصد شرعية كبرى، وخبرة بواقع مجتمع الصحابة، رضوان الله عليهم، الناشئ والذي لا ينفعه كثرة السؤال والجدل، فقد جاء في تفسير وشرح قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم (المائدة:101) ، أنه لا هو نهي بإطلاق، ولا اتجاه إلى إلجام ألسنة الصحابة، رضوان الله عليهم، فيما يثبت
[ ص: 45 ] نفعه وانتفاء ضرره.
ويروي الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسـؤالهم واختلافهم على أنبيـائهم، فإذا نهيتكم عن شـيء فاجـتنبوه، وإذا أمـرتـكم بأمر فأتـوا منه ما استطعتم"
>[2] .
وفي هذا السياق يورد الشيخ "محمد سعيد رمضان البوطي"
>[3] - أثناء تناوله كراهة كثرة الرأي في الدين، الذي شاع بين الصحابة، رضوان الله عليهم- آراء فصيل من العلماء الفقهين لحقيقة المسألة، فيقول:
"... أما النهي الوارد عن كثرة السؤال، فمن الخطأ أن يفهم على إطلاقه، فإن الصحابة ما امتنعوا عن الأسئلة بإطلاقها، ولا اتجه إليهم النهي عنها بعمومها، وإنما الصحيح ما ذكره القاضي "أبو بكر بن العربي"، وأيده "ابن حجر" في الفتح
>[4] ، أن النهي إنما اتجه إلى السؤال عن أمور سكت
[ ص: 46 ] الشـارع عن حكمها، والوحي ينزل، ورسـول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، إذ هو لا يعدو أن يكون حينئذ تكلفا واسـتعجالا للشيء قبل أوانه، فإن الشـارع ما سكت عما سكت عنه في أثناء نزول الوحي، إلا توسعة للعباد ورحمة بهم، فإن الأصل في الأشياء كلها الإباحة، ولو شاء أن يغير الأصل لأنزل وحيا يتضمن ذلك.
ويدل على ذلك حديث البخاري عن الصحابي سعد بن أبي وقاص، مرفوعا: "إن أعـظم المسـلمين جرما من سـأل عن شيء لم يحـرم، فحرم من أجل مسـألته"
>[5] .. ويدخل في حكم هذا النوع من الأسـئلة - بل هو أشد وأولى بالمنع- السـؤال عن أمور غيبيـة نص الشـرع على ضـرورة الإيمان بها كما أخبر، دون الوقوف عند البحث عن أي كيفية لها، ومثلها ما ورد الخبر عنه مما لا يدخل في دائرة المحسـوسات ولا مثال له في خـزانة الخيـال، كالسؤال عن الروح، وكيفية حشر الأجساد، ومعظم أنباء الساعة وأحداثها.. ما لا سبيل للعقل المجرد إلى الخوض في تفاصيله.."
>[6] .
فمراعاة واحتياطا لمقصد صلاح الدين والعقيدة والإيمان، ومراعاة لطبيعة وواقع المخاطبين محل التنزيل، واعتبارا لما ينجر عنه من مفاسد وفتن.. جاء التضييق الشرعي هنا على عموم السؤال؛ لأنه بصيانه وحفظ مقصد صلاح الدين نضمن
[ ص: 47 ] حفظ مقصد صلاح العقل، وبضمان حفظ صلاح مقصد وكلية العقل يصلح مقصد وكلية حفظ صلاح الدين؛ لأن العقل يصير يتلقى معارف وحقائق صحيحة ومضبوطة ومنسجمة ومتناسقة تصلحه وتقيم أمره، وبصلاحهما (الدين، العقل) تصلح كلية ومقصد حفظ صلاح النفس، التي هي محل تعاليم الدين كلها، ومعها تستقيم أمور النسل والحياة والمال وسائر شؤون الكلف.
وبمقابل ذلك التقييد المشروط، فإن الشارع فتح الأسئلة المشروعة، التي تدعو إليها الحاجات الراهنة والملحة، كالاستفسار عن مدلول نص، أو البحث عن تقوية وتعضيد جانب ووجه في دلالة نص يعتد بوجهه على سائر الوجوه الأخرى، كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام والمحيض والصيد، بل هو مثار احترام وثناء، فقد أثنت السيدة عائشة، رضي الله عنها، على نساء الأنصار -كما في الصحيحين- من أن حياءهن لم يمنعهن من التفقه في الدين
>[7] .
ومن هذه السياقات النصية والمرجعية والتحليلية نتبين دقة الصنع في عمليات تنزيل النص على الواقع ومحله التكليفي، المراعي لبناء المقاصد الكلية في المنظومة الدينية الإسلامية للمكلف، والمرصوفة بانتظام من لدن خالقها.
- ثانيا: مثال نبوي مقاصدي واقعي:
[ ص: 48 ] تروي كتب السيرة
>[8] وشروح الحديث أن رجلا جاء المسجد النبوي يسأل الناس، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فناداه ليعرف حاجته، فلما علم حاجته، سأله: أعندك شيء في البيت يصلح للبيع؟ فقال: ما لدي سوى إناء من نحاس. فقال: بعه، ثم ايتني، فباعه وأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: بكم بعته؟ فقال: بدرهمين، فقال صلى الله عليه وسلم : درهم اصرفه على أهلك، ودرهم اشتري به فأسا وحبلا واحتطب، ثم قال
>[9] صلى الله عليه وسلم : لأن يغدو أحدكم، فيحتطب على ظهره، فيتصدق به،
[ ص: 49 ] ويستغني به عن الناس خير من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه؛ ذلك بأن اليد العليا أفضل من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول"
>[10] .
وفي رواية أخرى، عن الزبير ابن العوام رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يأخـذ أحـدكم أحبله، ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطـب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسـأل الناس، أعطوه أو منعوه"
>[11] .
والمتوسم في الفعل النبوي الشريف مع هذا الرجل المثخن بالمشكلات يتبين الكثير من الحكم والمعالم المقاصدية والواقعية، الآنية والمستقبلية، في مواجهة المشكلات الطارئة والدائمة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم حلل واقع هذا الرجل وقدم له الحلول المستعجلة والآنية، ثم ربطه بأسباب الحل الجذري.
ومما يمكن استنتاجه واقعيا ومقاصديا من فعله صلى الله عليه وسلم ، الآتي:
[ ص: 50 ] 1 - إدراك النبي صلى الله عليه وسلم لحجم المشكلة على المديين القريب والبعيد.
2 - إدراك النبي صلى الله عليه وسلم لخطورة تفاقم المشكلات وعدم معالجتها في حينها.
3 - تصميم النبي صلى الله عليه وسلم على إشراك المعني بالأمر في إيجاد حلول سريعة وعملية لمشكلته.
4 - إلقاء حمل حل المشكلة على المعني، وجعله يفكر ليتجاوز تبعات مشكلته التي ستشل قواه.
5 - تفضيل آلية الاعتماد على الذات قبل الاستعانة بالآخرين ومد اليد إليهم.
6 - إيجاد عمل غير مكلف وغير معقد، ولا يحتاج إلى رأس مال كبير (فأس، حبل، ظهر رجل، أو حمار).
7- استثمار كل الإمكانات الذاتية المتاحة (إناء نحاسي، بيعه، درهمين، تقسيم رأس المال..).
8- تقديم أفكار لحل المشكلة على المدى القريب، وتوفير الطعام العاجل للعيال.
9- دفع صاحب المشكلة لركوب الصعاب (الاحتطاب في الصحراء) من أجل الحفاظ على كرامته، وعدم سؤال الناس، في بيئة تعتز بالأنفة والشمم والعزة والكرامة.
[ ص: 51 ] 10- خطورة استفحال وانتشار مثل هذه الظواهر الهدامة في المجتمع المسلم وآثارها السلبية على الفرد والجماعة والمجتمع.
11- تشجيع النبي صلى الله عليه وسلم لآلية العمل كمحرك طبيعي لنهضة الأمة.
وهنا -كما ترى- يبدو الحضور القوي لأبجديات علم فقه واقع الناس ومشكلاتهم وحلولها السريعة والعملية والناجعة، كما يبدو جليا أيضا الرؤية الاستراتيجية لعلم المقاصد وحفظها وصيانتها، حيث الأصل هو الحفاظ على كليات ومقاصد كرامة الإنسان وكلية ومقصد صيانة عزة نفسه، وكلية ومقصد حفظ عقله من شوائب الانحراف، وكلية ومقصد حفظ تعاليم دينه الصحيحة والسوية، وكلية ومقصد حفظ نسله، من أن يتغذى وينشأ على استمراء قيم الذل والمهانة والاتكال. وخطورة ترك أفراد المجتمع ينشأون ويتربون على قيم إهدار ما يجب الحفاظ عليه وصيانته، وخطورة ما لهذه التداعيات السلبية من آثارها المدمرة على الفرد والجماعة والمجتمع والكيان، في حالة نشوء أفراده على هذه السلوكات والقيم السلبية الهادمة
>[12] .
- ثالثا: أمثلة من الخلافة الراشدة:
[ ص: 52 ] إن الأمثلة الواردة في كتب السير والمغازي والتفسير وشروح الحديث وكتب الطبقات والرجال ونحوها تشير إلى العشرات من المسائل التي راعى فيها الخلفاء الراشدون علمي المقاصد وفقه الواقع، ومن هذه الأمثلة الكثيرة نصطفي أربعة نماذج لكل خليفة راشدي، نرى فيها مدى اعتباره لواقع الناس ومقاصد حفظ كلياتهم، قبل تنزيل أو تعديل فهم تطبيقات النص.
3- 1 - الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقتال مانعي الزكاة:
تشير المصادر الإسلامية المختلفة إلى موقف الخليفة الراشدي أبي بكر الصديق من مانعي الزكاة، وتصميمه على قتالهم، فقد رأى بثاقب نظره أن مقصد وكلية حفظ الدين سينخرم، على الرغم من مخالفة الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين له في الرأي الاجتهادي الذي سلكه، ولكنهم انصاعوا لرأيه لاستنادهم إلى نص قطعي وهو وجوب طاعة الإمام.
وتنصب رؤية الصديق رضي الله عنه أن امتناع جماعات من المسلمين عن تأدية حق وفريضة من فرائض الإسلام تمردا وعصيانا وخروجا على سلطة الدولة، وفكا لارتبـاطهم بالأمة والجماعة المسـلمة، ولذلك زأر زأرتـه المشـهورة: "والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه".. وهذا تمام السياق:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله
[ ص: 53 ] إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله، ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله"؟ فقال أبو بكر:
والله لأقاتلن من فرق بين الصـلاة، والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله، ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شـرح صـدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق"
>[13] .
وهو -كما ترى- ينطلق من فهمه لمقاصد حفظ كليات الدين من جهة، لأهمية ومكانة وقيمة ركن وكلية مقصد حفظ الدين، الذي تترتب عليه حفظ كليات ومقاصد الدين الأخرى. كما انطلق أيضا من خبرته بواقع المسلمين يومها، واستعدادهم للذود عن تعاليم دينهم، وحفظ هيبتهم ودولتهم، والذب عن إرث وجهاد وتضحية ودعوة ومكابدة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.
وليست هذه للصديق رضي الله عنه ، ولا لعهده فقط، بل له أخر، فقد قرر له الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، أن يتوقف عن العمل لكسب القوت بعد أن نزل للسـوق يتاجر فقرروا له نصـيبا من بيت مال المسـلمين نظير
[ ص: 54 ] تفرغه للقيام بأعباء الخلافة، وجمع الصديق رضي الله عنه المصحف الشريف، وأوصى بالخلافة من بعده لعمر رضي الله عنه ، وغيرها مما راعى فيه حفظ مقاصـد الشـريعة، وفقه واقع الناس.
3- 2 - الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرض السواد بالعراق:
تشير مصادر السنة والتاريخ الإسلامي أن الخليفة الراشدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد وقف موقفا متميزا حيـال أرض سواد العراق، فقد عقد عمر رضي الله عنه ثلاثة مجالس شورية للبت في نازلة أرض السواد الخراجية بالعراق ورجح رأي عمر رضي الله عنه كرأي أغلبية الصحابة، رضي الله عنهم، مراعاة للمصلحة الراجحة وفقها للواقع الجديد، حيث تغيرت هذه المرة مادة الغنيمة من أشياء ومنقولات إلى أراض زراعية خصبة مجهزة بمزارعيها والقائمين عليها، ولمقصد خشية انشغال الصحابة بالعمل في تلك الأراضي ونسيان أمر نشر الإسلام وتوسيع دائرة الدولة الإسلامية وتقويض دعائم قوى الشر والطغيان ممثلة في دولتي الفرس والروم، على الرغم من مخالفة رأى أقلية من الصحابة، رضوان الله عليهم، كعبد الرحمن بن عوف وبلال الحبشي، الذين وقفوا على ظاهر آية تقسيم الغنائم في سورة الأنفال:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير (الأنفال:41).
فمراعاة لإحداثيات فقه الواقع ولمقاصد الدين الكبرى فقد نهج هذا
[ ص: 55 ] المسلك، ولو ترك الصحابة يستوطنون تلك الأرض لانحبس نور الإسلام هناك، ولربما انطـفأ كما ذهـب إلى ذلك جمهور الصـحابة ومن بعـدهم التابعين والفقهاء.
وليكاد يكون منهج الخليفة الراشدي عمر رضي الله عنه مشبعا بالحكمة ومحوطا بالرشاد ومتميزا في مراعاة فقه الواقع ومقاصد الدين الكبرى، من الوقوف على ظواهر دلالات النصوص، فقد رأى بفقهه للواقع ولمحل التنزيل وبثاقب نظره المقاصدي أن نص قطع يد السارق لا تنزل على محلها (العبد الذي سرق الطعام) في عام الرمادة سنة 15هـ، وقد زاد رضي الله عنه في حد متعاطي الخمر وزاد في عدد الجلدات لكثرة معاقرة الناس للخمر في بلاد الهلال الخصيب (بلاد الشام والعراق) ، وألغى نفي وتغريب الزاني الأعزب مدة عام مراعاة لفقه الواقع وحفاظا على الكثير من مقاصد الدين، وألغى بثاقب حكمته سهم المؤلفة قلوبهم مراعاة لواقع ومقصد عزة الدين الإسلامي، وجعل الخلافة من بعده شورى، وفي رجوعه في مسألة شهادة الرجال إلى شهادة العدول بعد رسالته الشهيرة في القضاء لعامله على الكوفة الصحابي الجليل عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري
>[14] .
3- 3- الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ومسائله الاجتهادية:
كما تشير مصادر السنة وكتب الحديث أن الخليفة الراشدي أمير المؤمنين
[ ص: 56 ] عثمان بن عفان رضي الله عنه راعى بعمق ودراية واقع الناس بعد انتشار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا وتوسع آفاق الكيان الإسلامي ودولته، وفقهه فقها مقاصديا وواقعيا جيدا ودقيقا ومنضبطا، وحافظ - باجتهاداته وآرائه وبصيرته- على الكثير من مقاصد الدين، كجمع الناس على مصحف واحد وإحراق ما سواه، وصلاته بالحج صلاة رباعية كاملة دون قصر وجمع اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مراعاة لكثرة الداخلين في الإسلام من الأمم المفتوحة، حتى لا يتسرب إلى خلد بعضهم ويظنوا أن الصلاة الرباعية قد أصبحت مقصـورة أبدا لا رخصـة مؤقتة في موسـم الحج، فقطع الشـك باليقين تنزيلا لا نسخا. وغيرها من الاجتهادات التي تنظر لفقه الواقع ومراعاة للمقاصد الكبرى للإسلام، ولاسيما بعد كثرة الداخلين في دين الله أفواجا من الشعوب والأمم المغلوبة
>[15] .
فرأى بثاقب نظره أن حفظ تعاليم دينهم سوية صحيحة سبيل لحفظ عقلهم من الانحراف، وبالتالي سيحفظ أنفسهم من تهلكات الخرافات والأساطير والأوهام والانحرافات، ما يؤدي بهم تبعا لحفظ نسلهم أيضا من خلل تلقي التربية الدينية الفاسدة المنحرفة، وهو أيضا سبيل إلى حفظ مالهم؛
[ ص: 57 ] لأنه بتعاليم الدين السوية وبالعقل المشبع بالقيم الدينية الصافية والسوية سيمارسون نشاطاتهم ويحيون حياتهم السوية، وهكذا تكتمل وتكون الحياة الإسلامية الراشدة السعيدة.
وقد أحدث رضي الله عنه الأذان الأول يوم الجمعة قبل دخول وقت الظهر على داره في الزوراء لما توسعت المدينة وكثر الناس، واحتاج أهلها إلى إخبار مسبق ليعلموا بقرب دخول الوقت الفعلي للظهر الذي تصـلى فيه صـلاة الجمعة، ولم يعد يكتـفي بالأذان الذي يـرفع عند بداية صـعود رسـول الله صلى الله عليه وسلم المنبر؛ لأن المدينة توسعت، ولم يعد الأذان كافيا لإبلاغ من هم في ظواهر المدينة
>[16] .
فأنت ترى أن الخليفة عثمان قد راعي فقه الواقع والمقاصد وخالف ظاهر النص من الكتاب والسنة في مواضع (إحداث الأذان الأول في صلاة الجمعة) ، وعاد إليها قصدا في مواضع أخرى (الصلاة الرباعية في الحج وترك القصر رخصة) مراعاة لحال وواقع المسلمين والدولة الإسلامية، ولمقاصد حفظ الدين.
3- 4- الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
كثرت الفتن في عهد الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب رضي الله عنه والخروج عليه ورفض طاعته والانصياع إليه، وتكونت الفرق والجماعات المقاتلة، ولذلك اعترضت المسلمين أول ما اعترضهم مسألة الاقتصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه
[ ص: 58 ] ولكن الرأي يومها سار إلى أنه لا يقتص من القاتل حتى يجتمع المسلمون على إمامهم، وهم منقسمون مازالوا لم يجتمعوا على أي منهما، عليه هو رضي الله عنه وعلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
>[17] .
وبخلاصة تدبرية مقتضبة من مجموع الأمثلة والنماذج، التي سقناها نتبين أهمية ومقصد وعي مسألة اكتمال وحدود وضوابط ختم الرسالة بثوابتها ومتغيراتها، وما تركته ثابتا مقطوعا باتباعه والأخذ به، وما تركته قابلا للاجتهاد حيث لا مورد للنص
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام (المائدة:3) وآليات وإحداثيات وكيفيات التعامل مع النصوص القرآنية والنبوية وتنزيلها في واقع الحياة والناس من جهة ومراعاة الحفاظ على مقاصد الدين والشريعة الكبرى من جهة ثانية، وذلك وفق آليات التدرج والمرحلية والسننية ونواميس النفس البشرية كالقدرة والاستطاعة والترخيص والعزيمة والاحتمال.. من جهة ثالثة، وواقع وحال الناس وظروفهم ودوافعهم ومتغيراتهم الحياتية المتطورة الجديدة من جهة رابعة، دون إغفال أو إشاحة عن طبيعة ومكونات الفرد والجماعة والأسرة في ظل الظروف المحلية والعالمية الجديدة، وترك مواجهة الواقع والهروب إلى أحلام التاريخ والمجد التليد والماضي الغابر للقرون الهجرية الثلاثة الأولى
>[18] ، والنكوص إلى محاولة استرداد الأنموذج
[ ص: 59 ] من غير فقه واقع ومقصد وتنزيل.
وعليه، فمراعاة واقع الناس من جهة، والحفاظ على مقاصد الدين من جهة ثانية، وانضباط العقل الاجتهادي الصارم بضوابط وكيفيات وآليات إنزال النصوص في محلها الحقيقي من جهة ثالثة، والاجتهاد في ما لا مورد فيه من النصوص من جهة رابعة، أو في كيفيات تقليب وتدبير وتدوير الوجوه الراجحة والمفيدة للنصوص (الكتاب والسنة) في وجوهها الشرعية من جهة، هو عين ما يجب أن يتوخاه الدعاة والقائمين على صناعة الخطاب الدعوي لنجاح عملهم الدعوي، محليا وإقليميا وعالميا، ولأن تحجيم ولجم العقل عن التجوال والترحال العقلي الإبراهيمي - نسية لسيدنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم - كما في سورة الأنعام آيات (75-79) ، في قوله تعالى:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (الأنعام:75-79).
[ ص: 60 ] وفي سورة البقرة، في قوله تعالى:
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (البقرة:258).
وفي قوله تعالى:
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (البقرة:260) في مقاصد التوحيد والعبادات تعطيل لطاقاته الإيجابية والفاعلة في فهم الحكم والغايات منها، وهو ما سنحاول التعرض له في الفصل الثاني، وفي الفصل التطبيقي الثالث، إن شاء الله.
[ ص: 61 ]