المطلب الأول
علم المقاصد قيمة مركزية دعوية في هذا الدين
حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات وأثره على المدعوين
تقودنا الرؤية الدعوية في مجال صناعة وتشكيل قيم ومشاعر ومعتقدات وسلوك المدعوين إلى اعتبار وتقدير الأسس، التي بها يتوصل إلى بناء أسس التصور القيمي لدى المدعوين، انطلاقا من علمي المقاصد وفقه الواقع عبر أولوية حفظ الضروريات وثنائية منازله الواقعية الحياتية، الواجب على القائم بالخطاب الدعوي مراعاتها والأخذ بها، وثلاثية فقه إحداثيات ومنازل ومفعلات محل التنزيل، ولعل في مقدمتها:
- أولا: حفظ الضروريات بين علمي المقاصد وفقه الواقع:
ولحفظ الضروريات "فقد شرع الله لحفظ الدين إيجاب الإيمان، وأوجب الدعوة إليه، وشرع الجهاد، وعقوبة المرتد، والحجر على المفتي الماجن، الذي يحلل المحرم"
>[1] .
وعليه، فالدعوة إلى الله تعالى وإلى دينه الإسلام من الضروريات الأساسية
[ ص: 71 ] في هذا الدين، بل هي عمود وقوام التعريف بالإسلام لجمهور المدعوين بمختلف أصنافهم، ولولاها (الدعوة) لما تواصل جمهور المدعوين بتعاليم الإسلام ولا بالمجتمعات الإسلامية، ولا عرفوا حقائقه وقيمه ومثله وأحكامه وشرائعه ومقاصده الإنسانية النبيلة.
ونظرا لما تشكله معارف علم المقاصد في الجدار الدعوي المتين من كونها إسـمنت ورابط الأجزاء واللبنات، فهي أشبه بحجر الزاوية في صرح البناء الدعوي الشـاهق، وصـار الأخذ بها والتمكن منها أحد طرق التعريف بالإسلام الأساسية.
وبهذه الرؤية الاستراتيجية للدعوة ولعملية الاتصال الدعوي الحساسة بجمهور المدعوين، تصير عملية معرفة علم المقاصد واجبا شرعيا للمتصدي للدعوة، ويترتب عليها الكثير من الشروط والواجبات، على رأسها: واجب معرفته لنفسه أولا، وواجب تعليم غيره من المدعوين ثانيا، حتى يقدم لهم النصيب الكافي مما يحتاجونه من قيم وتعاليم الدين الضرورية، وذلك وفق وضعهم وظروفهم وواقعهم، الذي يجب عليه أن يفقه كل مكوناته الشيئية والمعنوية ثالثا.
ولـ "حفظ النفس، فقد شرع الإسلام لإيجادها الزواج للتوالد والتناسل، وشرع لحفظهما وكفالة حياتهما إيجاب تناول ما يقيمها من ضروري الطعام والشراب واللباس والسكن والدواء، وإيجاب القصاص والدية والكفارة على من
[ ص: 72 ] يعتدي عليها، وتحريم الإلقاء بها إلى التهلكة، وإيجاب دفع الضرر عنها"
>[2] .
ومنه يستفاد وجوب معرفة الدعاة للإسلام كل الحكم والأسرار والمقاصد المترتبة عن حفظ الإسلام للنفس وللعقل، وذلك بتحريم وحظر كل المسكرات والمفترات عنهما، وعقاب كل من يخالف تحريمهما، ولا يتأتى له ذلك بمعرفة الحكم الشـرعي ومحل تنزيله فقط، بل من الواجب على الداعية معرفة محل إنزاله الواقعي، ولا يعتمد فقط على الموروث في الفتوى وما جاء في بطون الكتب مما أفتي به في الأعصار السالفة لعدم صلوحية كثير منها لغيرها.
ولـ "حفظ العرض، شرع حد الزاني والزانية وحد القاذف، وشرع لحفظ المال تحريم السرقة وحد السارق والسارقة، وتحريم الغش والخيانة، وأكل أموال الناس بالباطل وإتلاف مال الغير والتضمين والحجر على السفيه، وتحريم الربا ودفع الضرر، وشرع لتحصيل المال وكسبه إيجاب السعي للرزق وإباحة المعاملات والمبادلات والمضاربة، وكفل حفظ الضروريات كلها، بأن أباح المحظورات للضرورات"
>[3] .
وعليه، وجب على الدعاة للإسلام الإحاطة الشاملة بمقصود الشارع في مجال الضروريات؛ لأنهم النقلة الحقيقيون لأحكام الشريعة الإسـلامية، فضلا عن تحيين وتوقيت مقتضيات ومكونات الواقع أثناء عملية الإنزال النصية والحكمية وضمان نجاح عملية المتابعة المقاصدية، فيما يسـميه علماء الأصول
[ ص: 73 ] بـ (تحقيق وتعليق المناط).
وتبعا لما عرضناه آنفا، فإن الأحكام الشرعية المتعلقة بباب حفظ الضروريات تعد شرطا وبابا مهما، في مجال فهم واقع وظروف الناس لتعليمهم وغرس قيم الشريعة فيهم بناء على الخطوات الدعوية والأبعاد التأثيرية في أعماق نفوسهم.
وبناء على تمهر الدعاة وحذق فقه التنزيل والواقع وترسم الأبعاد المقاصدية للقيمة أو للحكم الشرعي في مجال حفظ الضروريات، فإن الأمر لا يختلف في مستوى ومجال حفظ الحاجيات، لأن أي اختلاط أو خطأ في الترتيب والتصنيف يؤدي -لامحالة- إلى التشويش على جمهور المدعوين، وعليه فإتقان الدعاة لهذه المهارة المرحلية والتراتبية بين حفظ الضروريات والحاجيات ونزولها على واقعهم وحالهم مهمة جدا في نجاح العمل الدعوي عموما.
وهو ما سنبينه في مطلب حفظ مقصد الحاجيات مرفوقا بآلية فقه الواقع والتنزيل واقعيا على مختلف أصناف الجمهور المدعو بكافة فئاته، وهو سبيل إتقان صياغة خطاب دعوي وشرعي تواصلي إقناعي معاصر ومقبول، يضمن لجمهور المدعوين الفهم والتقبل والاقتناع والتفاعل والتأثر، ومن ثمة تحقيق وضمان الحد الأدنى من السلوك الديني المنتظر والمقبول شرعيا واجتماعيا.
- ثانيا: حفظ الحاجيات:
شرع الإسلام في مجال الحاجيات أحكاما لحفظها وصيانتها وتمكين المكلفين من معرفتها ومن كيفيات الاستفادة منها، ومن طرق تبليغ المدعوين بها، ولذلك فقد شرع في العبادات الرخص تيسيرا وتخفيفا عن كاهل المكلفين،
[ ص: 74 ] وهو مما يجب أن يعرفه المدعوون من قبل الدعاة.
كما "شرع كثيرا من الأحكام في المعاملات، فجعل الكثير من العقود والمعاملات والتصرفات، التي تقتضيها حاجيات الناس،كأنواع البيوع والإيجارات والشركات والمضاربات ورخص عقود لا تنطبق على القياس وعلى القواعد العامة في العقود، وشرع الطلاق للخلاص من الزوجية عند الحاجة، وأحل الصيد وميتة البحر والطيبات من الرزق.. وفي العقوبات جعل الدية على العاقلة تخفيفا على القاتل خطأ، ودرأ الحدود بالشبهات، وجعل لولي المقتول حق العفو عن القصاص"
>[4] .
ومن هنا صار من اللازم على الدعاة وسـائر المشتغلين بالعمل الدعوي ضـبط وتحرير الفهوم الشـرعية الدقيقة والصحيحة حيال القضايا الحاجية في الشريعة والتي تقتضيها حاجيات الناس الأسـاسية، وتوجيه المكلفين الوجهة المقاصدية الـسـليمة والآنيـة والواقعيـة، والأنفع لهم، كي لا تختلط عليـهم مسـائل الديـن، ولا يجدوا حرجا في ممارسة حياتهم وفق ما شرعه الله لهم في واقعهم المعاصر.
ولو لم يع الدعاة أو القائمون على صناعة وإعداد وتوجيه الخطاب الدعوي لجمهور المدعوين أهمية البعد المقاصدي في بث الأشعة النورانية في المشهد التعبدي لبقينا نؤدي عبادات باهتة صورية لا روح فيها ولا مقصدا كماليا يرجى منها، فالعبادات ما هي إلا وعاء ومحضن مقدس لمضمون
[ ص: 75 ] ومحتوى سام وأعمق وأبعد وأغور في النفس الإنسانية السوية، ارتضاه الله وشرعه من تأديتها، على الرغم من قصور العقل في تقصي الكثير من المقاصد والحكم المبثوثة في ثنايا العبادات
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (الإسراء: 85) ، إلا أنها في غياب المقصد تصبح مجرد طقوس باهته، وعلم المقاصد هو الطاقة الخلاقة والفعالة الكفيلة بتحريك المكلفين نحو معارج النورانية والكمال المقصودة من تأدية العبادات.
- ثالثا: حفظ التحسينيات:
ومن أجل استكمال المعرفة بفرائض وسنن وواجبات هذا الدين فقد شرع لهم مستوى التكميليات، التي تضمن لهم الكماليات التكريمية للحياة، وسماها الشاطبي بالأمور التحسينية، التي "..شرع لحفظها أحكاما، ففي العبادات شرع الطهارة للبدن والثوب والمكان وستر العورة والاحتراز من النجاسات والاستسرار من البول.. وفي المعاملات حرم الغش والتدليس والتغرير والإسراف والتقتير، وحرم التعامل في كل نجس وضار.. وفي العقوبات حرم في الجهاد قتل الرهبان والصبيان والنساء والآمنين، ونهى عن المثلة والغدر وقتل الأعزل وإحراق ميت أو حي.. وفي الأخلاق والفضائل فقد قرر أصولا يتهذب بها الفرد والجماعة، وتنهض بالناس خير نهوض"
>[5] .
وعليه، وجب على الـمعرف بالإسلام من جمهور الدعاة الإحاطة الكلية
[ ص: 76 ] والشاملة والمتوازنة بمستوى الضروريات والحاجيات والتحسينيات في الشريعة الإسلامية، ليقدمها للناس وفق موقعها ومكانتها ودرجتها ومستواها التكليفي، فلا يؤخر ما حقه التقديم، ولا يقدم ما حقه التأخير، ولا يحقر ما حقه التعظيم والإجلال، ولا يبعد ما حقه الوجود والحضور، وهكذا سائر أصول وفروع الشريعة، علة، وحكمة، وسرا، ومقصدا، لقوله صلى الله عليه وسلم : "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"
>[6] .
فالفائدة الجليلة من علم مقاصد الشريعة للدعوة والدعاة، تتلخص في:
قوة علم المقاصد ودقته العملية لفهم النصوص الدالة على الأحكام الشـرعية، والتحكم والتـقرير فيها حال التعارض والترجيح، والاستنباط والقياس، واعتبار وجاهة الأقوال والآثار المأثورة، ولاسيما أخبار الآحاد الواردة عن الصحابة والتابعين، وقوة الاستدلال بها، واسـتنباط الأحكام للنوازل والوقائع المستجدة
>[7] .
وعليه، فهذا العلم (علم مقاصد الشريعة) هو الذي يتيح للقائمين على صناعة عملية الاتصال الدعوي الفهم السوي والعميق والصحيح لنصوص ومقاصد وأحكام الشريعة خلال عمليات إعداد مشروع الخطة الدعوية،
[ ص: 77 ] ويمكنهم من تسوية أرضية فهم وتصور دينية سوية للأحكام الشرعية على وجهها الراجح، واقعيا ومنفعيا ومصلحيا ومقاصديا أيضا، حال وضع اللمسات النهائية على مشروع الخطة الدعوية، لكونه يشكل محرارا معرفيا ومنهجيا ومعلميا وواقعيا لمنازل ومحال الخطاب التكليفي أو الوعظي الإرشادي، لاسيما وأن الأقوال والأخبار الواردة في أي مسألة من مسائل الدين كثيرة وكثيرة جدا، فهو الفيصل الفاروق الفاري في يد القائمين على صناعة الخطاب الدعوي السديد الهادف والناجح.
كما أنه يضطلع بدور التنوير والطمأنة للقائمين على صناعة الخطاب الدعوي حال قيامهم بعملية التنفيذ والمتابعة والتقييم والتقويم.. فبه ومن خلاله يتمكنون من تتبع مواطن التسـديد، أو مواقـع الخلل والعطب في المشـروع.. وبه يتمكنون من تحديد مكمن الخلل، ومكان وزمان وقوعه، أهو في الخطاب نفسه؟ أم في محل إنزاله الخاطئ؟ أم في القائمين عليه؟ أم في أي ركن من أركان عملية الاتصال الدعوي المعقدة والمتشابكة: زمكانيا وكيانيا وإمكانيا ولغويا ونفسيا وشعوريا ووجدانيا؟
فالمقصـد، ومن معه من العلوم كفقه الواقع وفقه محل الانتقاء والتنزيل السوي، هو: المحرار الضابط لمسيرة التدين الصحيح والسليم والفعال في الإنسـان والجماعة؛ لأن كل فكرة قد تحمل طاقة دفع إيجابية أو سلبية، فما بالك إن كانت الفكرة هنا عبادة وقفية مقدسة من عند الله، فهي تصـنع الكثير والكثير، بل ترسم مسـار أمة بأكملها، إما رشـدا ورفعة،
[ ص: 78 ] وإما ذلا ومهانة.
وفوق ذلك كله، كون الدين الصحيح والسوي طاقة روحية ووجدانية وعقلية وسلوكية خلاقة وفعالة للارتقاء بالفرد والجماعة في مدارج السالكين ومعارج الواصلين إلى رضوان الله في العاجل والآجل، وذلك كله منوط بمدى قدرة الخطاب الدعوي السوي والصحيح وصناعته لعلاقة وطيدة مع ربه وتشريعاته وعباده المتلقين، فإن أسسها القائم بالاتصال الدعوي وتلقاها على صراط مستقيم حسنت دنياه وآخرته، وإن تلقاها ممن لم ولا ولن يعيها بأبعادها كانت عليه وعلى جماعتـه وبـالا وتخلفا، كحالنا نحن اليـوم، الذيـن لم نصنع شيئا بالإسلام وبكثرة الدعاة والقائمين بعملية الاتصال الدعوي.
ومن هنا ننطلق لتبيين دور ومكانة وأهمية وأثر علم فقه الواقع ولداته كقيمة مركزية دعوية في هذا الدين وأثرها الفعال في نجاح العمل الدعوي.. ففقه المقصد ولداته الأخرى تنتقل بالعبادة من كونها تصرفات وحركات وتمتمات وأقوال وكيفيات مخصوصة مبهمة عند الكثيرين، إلى كونها مفاهيم وقيم روحية ووجدانية وعقلية واعية كفيلة -إن استوعبت- أن تنهض بالفرد والجماعة والأمة نحو الخط المرسوم لها من لدن خالقها ورازقها، إن وعت سننه ونواميسه الكونية الضابطة.
[ ص: 79 ]