المطلب الثاني
فقه الواقع قيمة دعوية مركزية دينية
عندما يكون الداعية والفقيه جزءا حقيقيا وعمليا من الواقع وحياة الناس، فإن عمله الدعوي يتأسس وينطلق من فقهه لواقعه، وبالتالي سيتأسس خطابه الدعوي على مدى تغلغله في أعماق واقعه.. وبمقدار مشاركاته العملية في نسيج شبكة العلاقات الاجتماعية لمجتمعه يكون خطابه ناجحا ومؤثرا وفاعلا.
وهنا يستجمع في نفسه ملكة فهم الشريعة وأنه "..لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم.."
>[1] ؛ وملكة فهم الواقع وظروف وأحوال الناس، وملكة فقه التنزيل المعاصر؛ بالإضافة إلى "معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها، ومجاري أحوالها حالة التنزيل"
>[2] .
[ ص: 80 ] ومن ثم، فهو يبني خطابه على منطوق مدى حاجة الناس للشرع، ومنطوق دور الشرع في إعادة إحياء الناس، ومنطوق ما حقه التقديم لإنشاء خطاب دعوي متين مؤسس لبناء الكيان الإسلامي.
وتأسيسا على هذا يقول الشاطبي: ".. فإن كل دليل شرعي مبني على مقدمتين، إحداهما: راجعة إلى تحقيق مناط الحكم، والأخرى: ترجع إلى نفس الحكم الشرعي"
>[3] .
وكثيرا ما يسأل الداعية أو الخطيب أو الفقيه في مسائل فقهية واضحة ولا يمكنه الإجابة عنها إجابة كافية شافية وافية مقنعة، أو أننا نتبين من إجابته بأنه لا يحسن الإجابة لكونه بعيدا كل البعد عن واقعه وناسه وأهله ومجتمعه، وهذا عيب قادح في شخصية الداعية من جهة، وأحد مهلكات العمل الدعوي، لانفصامه عن الواقع، الذي هو بيت المقاصد ومحل التنزيل.
- أولا: أجوبة متعددة لسؤال واحد:
ومن خلال تتبع سيرة وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نتبين أنه كان جزءا مهما وأساسيا من مجتمعه، ولم ينفصل عنهم لحظة واحدة، وهذا هو عين فقه الواقع، وقد وصفه الله تعالى في محكم تنزيله بمزية انتمائه الاجتماعي فذكره في أربعة
[ ص: 81 ] مواضع قرآنية مدنية، مثبتا أهمية الانتساب والانتماء الاجتماعي والثقافي واللغوي والجسدي والديمغرافي للداعية في قومه وأهله، فقال، وهو يصف دعوة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، ضمن سلسلة الأدعية، التي جأر بها إلى ربه في سورة البقرة :
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا ... إلى قوله تعالى:
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (البقرة:126-129) ،
وفي قوله تعالى وهو يقيم الحجة على المعاندين:
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (البقرة:151) ،
وفي قوله تعالى وهو يمن عليهم:
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (آل عمران:164) ،
وفي سورة الجمعة في قوله تعالى:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (الجمعة:2).
وإذا تمعنت في الآيات الكريمات ستجد أن ركن انتماء الداعية لمجتمعه وواقعه أساسية ومهمة لنجاحه في أداء مهمته، فضلا عن كون الآيات نقلت لنا وعرفتنا بالوظائف، التي اضطلع بها نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وهي:
1- التلاوة:
يتلو عليهم آياته ، أي: يعرض عليهم تفاصيل
[ ص: 82 ] مشروعه الإلهي.
2- التعليم:
ويعلمهم الكتاب والحكمة ، أي: يقوم بدور المعلم لتعاليم الله وللسنة النبوية المطهرة.
3- التزكية:
ويزكيهم ، أي: يقوم بتربيتهم وتأديبهم وتحليتهم بالأخلاق الفاضلة
>[4] .
ولعلنا نقدم أمثلة عن فقهه، عليه الصلاة والسلام لواقعه، وكيفية تعامله مع السائلين، لنتعلم منه صلى الله عليه وسلم .
فقد سئل، عليه الصلاة والسلام، سؤالا واحدا وأجاب عنه إجابات مختلفة حددتها طبيعة ونوعية محل السؤال.. ولنتتبع هذه الأمثلة النبوية لنرى أهمية فقه الواقع في الدين الإسلامي كقيمة مركزية للدعوة إليه.
فقد سأل العباس رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، علمني شيئا أدعو به.. فقال: "سل الله العفو والعافية".. قال: ثم أتيته مرة أخرى فقلت: يا رسـول الله، علمني شـيئا أدعو به.. قال: فقال: "يا عباس، يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم سل الله العافية
[ ص: 83 ] في الدنيا والآخرة"
>[5] .
وهو -كما ترى- فقد أعطاه جوابا مختصرا يصلح لحاله، لكونه يعرفه أشد المعرفة فهو عمه، وهو من كبار قريش وأغناهم، ولعلمه بسداد رأيه وسعة عقله، وإحسانه في قومه، ولمعرفته بسائر خصاله النبيلة، فقد كان يمقت الرق، وكان مولعا بعتق العبيد، وكانت له سقاية الحجيج وعمارة المسجد الحرام
>[6] .
وجاءه صلى الله عليه وسلم مرة أعرابي ، فقال: علمني كلاما أقوله.. قال: "قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم"
>[7] .
[ ص: 84 ] وهذا الصحابي الجليل سيدنا أبو بكر الصـديق رضي الله عنه والخليفة الراشـدي الأول يسـأل رسـول الله صلى الله عليه وسلم عن دعاء يـدعو به في صـلاته، فقال له رسـول الله صلى الله عليه وسلم : "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنـوب إلا أنت، فاغفر لي مغفـرة من عندك، وارحـمني إنك أنت الغفـور الرحيم"
>[8] .
وهذا سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه
>[9] ، يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك.. قال: "قل: آمنـت بالله فاسـتقم"
>[10] .. وهذه إجابة لم تزد عن أربع كلمات حتمها معرفته صلى الله عليه وسلم بحقيقة السائل، وهو عين المقصد ومحل التنزيل.
وجاءه صلى الله عليه وسلم صحابي يسأله مرة، فيما يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء
[ ص: 85 ] رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرني بأمر.. قال: "لا تغضب"، قال: فمر، أو فذهب، ثم رجع، قال: مرني بأمر.. قال: "لا تغضب".. قال: فردد مرارا، كل ذلك يرجع، فيقول: "لا تغضب"..
وفي رواية: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: مرني بأمر ولا تكثر علي حتى أعقله، قال: "لا تغضب"، فأعاده عليه، قال: "لا تغضب"
>[11] .
وفي رواية: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصنى، قال: "لا تغضب".. فردد مرارا، قال: "لا تغضب"
>[12] .. وفي رواية لابن حنبل: قال رجل: يا رسول الله، أوصني.. قال: "لا تغضب".. قال: قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله
>[13] .. وهنا لم تتعد الإجابة كلمة واحدة.
وذاك رجل آخر يسأله سؤالا ويرجوه أن تكون إجابته خفيفة وعبارته موجزة، لا بسـط فيها ولا تفصيل، نظرا لحالته النفسية والعقلية الخاصة، فيجـيبه رسـول الله صلى الله عليه وسلم قائـلا، فيما يـروى عن عقبـة بن عامر رضي الله عنه : قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: "املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك"
>[14] .. وهنا تجاوزت الإجابة ثلاث جمل، ولكنها حملت
[ ص: 86 ] قواعد اجتماعية ومعاني تربوية وقيمية كبيرة جدا.
وقد صدر هذا كله من رؤية شمولية للواقع ولمحل التنزيل وللمقصـد المرغوب سلوكه.
بينما جاء جوابه صلى الله عليه وسلم مغايرا عند ارتفاع سقف الطالب، ورغبة السائل وشوقه الصحبة في الجنة، وهو مطلب ليس يسير السبيل، بل هو عسير البلوغ والمنال، إلا أنه صلى الله عليه وسلم يسر له الطريق، وقاده نحو الصراط المستقيم المفضي للجنة.. فقد جاء عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: "سل".. فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: "أو غير ذلك"؟.. قلت: هو ذاك، قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود"
>[15] .
ومن خلال هذه الأجوبة المتعددة نتبين - من فعله وأجوبته صلى الله عليه وسلم - أهمية معرفة حقيقة وعين محل التنزيل، من خلال فهم حاله وواقعه ونفسيته وظروفه المحيطة به، وبها نكون قد حققنا المقصد المرغوب لتلك الحالة دون غيرها.
- ثانيا: أجوبة متعددة لأسئلة حال:
وهي العملية نفسها التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها عندما يرى
[ ص: 87 ] الحصيفين والنبهاء من الصحابة، رضوان الله عليهم، بالقرب منه، دون أن يضطرهم أو يحرجهم ليسألوه، فهو يعلمهم ويجيبهم بحدسه ومعرفته بما يجول في نفوسهم.. فقد جاء عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة.. اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي.. اللهم استر عورتي (عوراتي) ، وآمن روعاتي.. اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي"
>[16] .
وهو ذاته السلوك التربوي النفيس، الذي كان يمارسه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء سألوا أم لم يسألوا؟ استوصوا أم لم يستوصوا؟ حيث تبدو معالم علمي المقاصد وفقه الواقع ومحل التنزيل..
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.. ثم يفشو الكذب، حتى يحـلف الرجل ولا يسـتحلف، ويشـهد الشـاهد ولا يسـتشهد.. ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان.. عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان
[ ص: 88 ] مع الواحد وهو من الاثنين أبعد.. من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة.. من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن"
>[17] .
وبناء على ما سبق نستنتج أهمية فقه واقع الناس ومعرفة أحوالهم ونفسـياتهم ومشـاعرهم وخواطرهم وظروفهم وبيئاتهم وثوابتهم ومتغيراتهم... في نجاح العمل الدعوي، وتسديد أهدافه، وتحقيق مقاصده المرغـوبـة فرديـا واجتماعيـا وكيـانيا، ومن ثم نجـاح الديـن وانتشـاره.. وهو ما يقودنا لتناول أهمية ودور علم المقاصد وفقه الواقع كقيمة مركزية لنجاح العمل الدعوي.
[ ص: 89 ]