المطلب الأول
علم المقاصد
قيمة دعوية مركزية لنجاح العمل الدعوي
الأحكام الشرعية شطرها معلل، وشطرها الآخر غير قابل للتعليل، لكون الحاصل في العقل من سائر التصورات المادية الواقعة غير قادرة لتعليل الكثير من الأحكام الشرعية، فلا تعرف علة عدد الركعات في الصلوات المفروضة والمسنونة مثلا، ونحوها، وثمة ما هو معلل وقابل للتحليل والتعليل والاستنباط لكون المخزون التصوري به نماذج يمكنه بواسطتها الوصول إلى بعض حكمها، وهو ما يقول به الكثير من الأصوليين كأبي حامد الغزالي في "المستصفى"، وغيره.. وفي هذا الصدد يقول الباحث عبد السلام خليل
>[1] :
".. لقد تفطن الإمام الرازي رحمه الله في زمن مبكر إلى جوهر الداء، حيث اعتبر التشبيه هو السبب الرئيس للوثنية، إنها الجرثومة الأولى التي أدخلت
[ ص: 93 ] التناقضات على العقل حتى أفضت إلى تعطيله، ففساد عالم الأفكار كان بداية من التفسير الحسي للصفات الإلهية، الذي أفضى في نتائجه إلى التجسيم الذي عطل مدارك العقل وأودى به إلى الجمود والتحجر، فأفرز بدوره جمودا وتحجرا في عالم العبادات، إنه الانعكاس الطبيعي لما يختلج في العقل من أفكار جامدة، فالعقائد والعبادات وجهان لعملة واحدة وتأثيرهما متبادل، فالعبادات هي الوجه العملي لكلمة التوحيد"
>[2] .
فالحكمة المقاصدية أو الهدف أو الغاية المقاصدية..
فمن حكمه المقاصدية صلى الله عليه وسلم أنه كان يرى أفضلية المداومة على العمل القليـل، فهو خير من العمل الكثـير المنقطع، فقد روت السـيدة عائشـة، رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال: "من هذه"؟ قالت: فلانة، تذكر من صـلاتها، قال: "مه، عليـكم بما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا"
>[3] ، أي: "اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق"
>[4] .
[ ص: 94 ] ومن حكمه المقاصدية في الدعوة: عدم مداومته على العمل خشية اقتداء الناس به، فيفرض عليهم، فيشق عليهم، فيتركوه، فكان صلى الله عليه وسلم يترك بعض المصالح خوف الوقوع في المفسدة، وتقديم أهم المصلحتين، فعن السيدة عائشة، رضي الله عنها، قالت: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.."
>[5] ، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن مواصلة الصيام في النهار والقيام في الليل تطوعا، ومخالفة سنته والتنطع والتشدد والغلو، وهو الذي سار عليه صحابته الكرام من بعده.
فكان عرضه صلى الله عليه وسلم بمثابة القدوة الناصعة والخط المبين، الذي يوجه الدعاة للإسلام في كل حين، تراعى فيه المقاصد الشرعية الكبرى وموقعها من واقع وحياة المكلفين.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "حكيما في تربية أصحابه، فسار بهم وفق منهج القرآن الحكيم، وتدرج معهم في الإصلاح والتغيير دون عنت ولا إكراه، فلم يكلفهم ما لا يطيقون، ولم يشرع لهم إلا ما يجلب لأنفسهم نفعا أو يدفع عنهم فسـادا وضررا.. وظهر هذا المنهج الحكيم من خلال أقواله وأفعاله، فكان ينهى عن التشـدد والتـنـطـع في العبـادة، ويرى أن ذلك مناف
[ ص: 95 ] لحكمتها والمقصد منها، قال صلى الله عليه وسلم : "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.."
>[6] .. والحكمة من النهي عن التشـدد في العبادة ظاهرة في الحديث، وهو خوف الانقطاع عن العبادة والنفور منها"
>[7] .
وكما اختلفت إجاباته صلى الله عليه وسلم لمدعويه، كما تبينا آنفا، نجده صلى الله عليه وسلم قد اختلفت وصاياه حيالهم أيضا، وذلك لمراعاته صلى الله عليه وسلم لحالهم وظرفهم من جهة، وللمقصد الشرعي المرغوب منهم سلوكه واتباعه من جهة أخرى، فذاك قال له: "لا تغضب"
>[8] ، وهذا قال له: "لا تسبن شيئا".
فعن الحـكم بن فضـيل، عن خالد الحذاء، عن أبي تميمة، عن رجـل من قومه قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل، فقال: أنت رسول الله؟ أو قال: أنت محمد؟ فقال: "نعم" قال: فإلام تدعو؟ قال: "أدعو إلى الله وحده، من إذا كان بك ضر فدعوته كشفه عنك، ومن إذا أصابك
[ ص: 96 ] عام سنة فدعوته أنبت لك، ومن إذا كنت في أرض قفر، فأضللت فدعوته رد عليك". قال: فأسلم الرجل، ثم قال: أوصني يا رسول الله، فقـال له: "لا تسبن شـيئا" - أو قال: "أحـدا"، شـك الحـكم- قال: فما سببت شيئا، بعيرا ولا شاة منذ أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم .. "ولا تزهد في المعروف ولو ببسط وجهك إلى أخيك وأنت تكلمه، وأفرغ من دلوك في إناء المستسقي، واتزر إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، والله لا يحب المخيلة"
>[9] .
ومن هذا الحديث نرى أن تسـديد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي السائل المقصـد المرغوب منه، بفضل حكمته المقاصـدية، وواقعيته في فهم المحل، وفي التعرف على أحوال السائلين، وفي ضمهم للصف الإسلامي دونما كثير عناء أو جهد أو كلام.
وفي هذا السياق يقرر عمر عبيد حسنه أن: ".. من سمات منهج النبوة في الدعوة والإصلاح: فقه الواقع، الذي عليه الناس، والتحقق بالرؤية الشاملة
[ ص: 97 ] للظروف والملابسات، وإبصار التداعيات المستقبلية لكل فعل وحركة، وتقدير الاستطاعة، مناط التكليف، قبل تقرير الأحكام وممارسة الأفعال.. ولعل في أسباب نزول الآيات، التي تشكل دليل عمل لتنزيل آيات القرآن وفق ظروف الناس، وتقديم الحلول لمشكلاتهم، مؤشر واضح على أهمية فقه الواقع، بكل ظروفه وملابساته، قبل تنزيل قيم الوحي عليه.. وهذا منهج النبوة وعطاؤها"
>[10] .
وعليه، فالداعية والدعوة الإسلامية بحاجة أكيدة لتقصي مقاصد القرآن وحكمه الغزيرة، ومن دونهما لا يمكن جذب وإقناع جمهور المدعوين نحو سماحة ويسر وحنيفية الإسلام.. فتعلم مقاصـد القرآن وحكمه - بالإضافة إلى لداته من العلوم- من أوكد العلوم التفصيلية في نجاح الدعوة والعمل الدعوي أسوة برسـول الله صلى الله عليه وسلم
>[11] .
[ ص: 98 ]