المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد:
فإن الحديث عن الفساد المالي والإداري يكتسب أهمية كبرى؛ لما له من صلة وثيقة بحياة الناس، وللنتائج والآثار الخطيرة المترتبة عليه في حياة الأمم والشعوب، ويكفي للدلالة على ذلك أن نذكر هنا أن قضية الفساد المالي والإداري كانت ولا زالت حاضرة وبقوة في قلب كل الصراعات والتحولات الاجتماعية والسياسية، وأن جل الثورات والاضطرابات، التي عصفت بحياة الدول والشعوب في القديم والحديث كان من أهم بواعثها استشراء الفساد المالي والإداري والذي غالبا ما يعبر عنه بإساءة استخدام السلطة، والعبث بالمال العام، واستغلال المناصب والوظائف العامة في تحقيق مصالح شخصية أو فئوية على حساب المصلحة العامة.
[ ص: 5 ] وقد أدركت دول العالم خطورة الفساد المالي والإداري، وأنه ينخر الدول من داخلها كما ينخر السوس الخشب، وإن كانت الدول المتقدمة هي الأكثر وعيا بخطورته، وبالتالي الأقوى في مكافحته، والأقل فسادا، والأكثر شفافية.
وأما دول العـالم الثـالث ـ ومنها دول العالم العربي ـ فهي مع الأسـف لا زالت تصنف على أنها الأكثـر فسـادا، والأقل شـفافية على مسـتوى دول العالم
>[1] !
وفي عصرنا هذا أضحت قضية الفساد المالي والإداري محل اهتمام عالمي، وعلى أعلى المستويات، وقد تجلى ذلك الاهتمام في عدد من الاتفاقيـات الدولية، أبرزها: (اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفسـاد)
>[2] ، وقد سبقها عدد من الاتفاقيات الدولية، ومن أهمها
>[3] :
[ ص: 6 ] - اتفاقية البلدان الأمريكية لمكافحة الفساد، التي اعتمدتها منظمة الدول الأمريكية في 29/3/1996م.
- اتفاقية مكافحة الفساد بين موظفي الجماعات الأوروبية، أو موظفي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، في 26/5/1997م.
- اتفاقية مكافحة رشوة الموظفين العموميين الأجانب في المعاملات التجارية الدولية، التي اعتمدتها منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي في 21/11/1997م.
- اتفاقية القانون الجنائي بشأن الفساد، التي اعتمدتها اللجنة الوزارية لمجلس أوروبا في 27/1/ 1999م.
- اتفاقية القانون المدني بشأن الفساد التي اعتمدتها اللجنة الوزارية لمجلس أوروبا في 4/11/1999م.
- اتفاقية الاتحاد الإفريقي لمنع الفساد ومحاربته، التي اعتمدها رؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي في 12/6/2003م.
وهذا التداعي من دول العالم لعقد تلك الاتفاقيات يعكس ـ بلا شك ـ الوعي المتنامي لدى دول العالم بمخاطر الفساد المالي والإداري وآثاره الكارثية.
وليس يختلف العقلاء في أهمية الوقاية من الشر والفساد، والحيلولة دون وقوعه من خلال منع الأسباب المفضية إليه، وتمكين الأسباب القاطعة عنه.
[ ص: 7 ] ومن هذا المنظور تأتي أهمية السياسة الوقائية في مكافحة الفساد المالي والإداري من خلال تعطيل الأسباب التي تبعث وجوده وتعزز حضوره، وتمكين الأسباب التي تحاصر وتضعف وجوده، وتستأصل مفاسده وشروره، وبالتالي وقاية المجتمع من استشراء الفساد المالي والإداري، وما يترتب عليه من نتائج خطيرة تمس المجتمع في أمنه واستقراره ونمائه.
كذلك تكمن أهمية السياسة الوقائية في مكافحة الفساد المالي والإداري في كونها توفر الكلفة العالية على المجتمع في مواجهة الفساد المالي والإداري؛ لأنها تمنع اسـتشراءه وتغوله، وبالتالي لا يكون المجتمع مضطرا لأن يدفع كلفة عالية من أمنه واستقراره وتماسكه الاجتماعي لكي يجتث الفساد ويأخذ على أيدي المفسدين.
وأما حين يغيب الوعي الوقائي وتتخاذل الحكومات والمجتمعات عن القيام بواجبها في مكافحة الفساد المالي والإداري، فإن الفساد يستشري وتترسخ جذوره، وتنشأ معه شبكات معقدة من المصالح تحميه وتحرسه، ومراكز قوى ترتبط به وتدافع عنه، وبالتالي لا يمكن اقتلاعه إلا بهزات عنيفة قد تؤدي إلى اضطرابات وصراعات لا تحمد عقباها.
وانطلاقا من هذا الوعي والإدراك رأينا اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد تخصص فصلا كاملا من فصولها للسياسة الوقائية في مكافحة
[ ص: 8 ] الفساد المالي والإداري، وهو الفصل الثاني منها والمعنون بـ "التدابير الوقائية".
وقد نصت مواد الفصل على "سياسات وممارسات مكافحة الفساد الوقائية" كما في المادة الخامسة، وعلى "هيئة أو هيئات مكافحة الفساد الوقائية" كما في المادة السادسة.
والتدابير الوقائية التي أوصت بها الاتفاقية لمكافحة الفساد المالي والإداري يمكن تلخيصها في الآتي:
- إنشاء هيئة أو هيئات لمكافحة الفساد وقائيا، وتعزيز الشفافية.
- نشر المعرفة في أوساط المجتمع بخطورة الفساد المالي والإداري، وتوفير الموارد الكافية والعناصر المدربة للقيام بذلك بالشكل المطلوب.
- إيجاد الضمانات اللازمة التي تعزز الكفاءة في الوظيفة العامة على أساس الجدارة والشفافية.
- تقديم أجور كافية، مع مراعاة مستوى النمو الاقتصادي في الدولة.
- إقامة برامج تعليمية وتدريبية للموظفين بهدف تعزيز قدراتهم على أداء واجباتهم الوظيفية الأداء الصحيح والمشرف، ولتوعيتهم بمخاطر الفساد المالي والإداري.
- وضع اشتراطات معينة للوقاية من الفساد في المجالات الحيوية كالقضاء والمشتريات العامة.
[ ص: 9 ] - التزام موظفي القطاع العام بمدونة السلوك.
- تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة المالية العامة.
- تعزيز حضور المجتمع المدني ومشاركته في مكافحة الفساد المالي والإداري.
- اتخاذ تدابير تأديبية ضد الموظفين الذين يخالفون معايير السلوك الوظيفي
>[4] .
ولأن "الحـكمة ضـالة المؤمن، أنى وجـدها فهو أحـق بها"
>[5] ، فلا حرج من الاستفادة من تجارب الأمم والشعوب الأخرى في مكافحة الفساد المالي والإداري، ولكن في ذات الوقت لا ينبغي لنا أن نهمل الخبرة والتجربة الحضارية الإسلامية في مكافحة الفساد المالي والإداري، بل إنه ومن
[ ص: 10 ] منظور حضاري يجب علينا أن ننطلق من إرثنا الحضاري والثقافي وأن نستلهم تجربتنا التاريخية في هذا المجال، وأن نقدم للآخرين ما لدينا باعتزاز كما نستفيد منهم بتواضع.
وقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة في مجتمعاتنا الإسلامية عن "مكافـحة الفسـاد المالي والإداري"، وغالبا ما يتم اسـتدعاء المفاهيم والخبرة الغربيـة في هذا السـياق، ومع التسـليم بأن "الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها"، فالواجب يفرض علينا أن ننظر أولا فيما جاءت به شريعة الإسلام، وأن نمعن النظر في إرثنا الثقافي وتجربتنا الحضارية الخالصة في مكافحة الفساد المالي والإداري، فقد قامت للمسلمين دولة مترامية الأطراف، ولا شك أن عوارض الفساد المالي والإداري قد عرضت لها ـ شأن باقي الدول ـ ولا شك أيضا أن المسلمين وبوحي من تعاليم دينهم ـ لا سيما في فترة الخلافة الراشدة ـ قد واجهوا ظاهرة الفساد المالي والإداري بإجراءات وتدابير وقائية ناجعة.
وهذا البحث محاولة لتقديم رؤية علمية موضوعية في الجانب الوقائي من الفساد المالي والإداري من منظور إسلامي، من خلال الرجوع إلى النصوص الشرعية والقواعد الكلية والخبرة والتجربة التاريخية الحضارية الإسلامية، وما سطره العلماء المسلمون من تقريرات وإشارات تناولت القضية محل البحث.
[ ص: 11 ] وقد بذل الباحث ما وسعه من جهد لتأصـيل وبلورة مفهوم واضـح ذي معالم محددة وسمات متميزة لسياسة الإسلام الوقائية عموما، وللسياسة الوقائية الإسلامية في مكافحة الفساد المالي والإداري على وجه الخصوص، وهو موضوع لم ير الباحث من سبق إلى طرقه.
والله تعالى المسؤول أن يجعل في هذا البحث علما نافعا، ونورا هاديا، والحمد لله أولا وآخرا.
[ ص: 12 ]