القسم الأول
مقتربات أساسية
أولا: القيم الحضارية
>[1]
القيمة، في علم الاجتماع: تصور واضح أو مضمر يميز الفرد أو الجماعة، ويحدد ما هو مرغـوب فيـه، يسـمح لنا بالاختيار من بين الأسـاليب والأنماط المتغيرة للسلوك والوسـائل والأهداف الخاصة بالفعل وصولا إلى السلوك الأمثل.
وهي أيضا حقائق أسـاسية في البناء الاجتـماعي، وهي بذلك تعالج من وجهة النظر الاجتـماعية على أنها عناصر بنائية تشتق أسـاسا من التفاعل الاجتماعي.
كما تعرف بأنها: نسـق من الـمثل، التي ينشـدها الإنسـان لـذاتها ولا يلتمسها لغرض يستفيده من ورائها؛ لأن الأشياء التي يطلبها الإنسان لتحقيق أغراض معينة تعد نسبية متغيرة.
[ ص: 7 ]
وإذا كان علم الاجتماع الحديث يرى أن القيم هي ثمرة التفاعل الاجتماعي البشـري وحـده، وهو اعتقاد لا غرابة فيه؛ لأن هذا العلم نشـأ في الأجـواء العلمانية، لذلك لا يضـع اعتبارا للمصـدر الإلهي في تكوين القيم وتأصيلها، وهو ما نعده المصدر الأساس الأصيل لها، بل إن القيم بوصـفها ضـوابط ومعـايير للسـلوك من حيث التحسـين والتقبيح، والخـيرية وضـدها، والأمر والنهي، لا بد من أن يكون مصـدرها الشـريعة الإلهية، وما يسـتجد منها لا ينبغي بحال أن يتقـاطع مع هـذه الشـريعة، فلا المدركات الحسية، ولا المنفعة ولا الفائدة، ولا الفعل المجرد يمكن أن يكون مصدرا للقيم في التصور الإسلامي للحياة.
أما الحضـارة، فمع تعدد التعريفات ووجهات النظر حولها، فإنها - في الإطار العام - حصيلة ما أنتجه الإنسان في عصر ومكان معينين، بيده وبعقله، فكل الأفكار والمفاهيم والنظريات والقيم والعادات، وكل وسائل الحياة المادية تدخل في تكوين حضارة شعب أو أمة ما، في زمان ومكان محددين، فهي ثمرة جهود الإنسان وحصيلة نشاطاته في الميادين كافة.
ومما يميز حضارتنا الإسلامية كونها حضارة قيم ومثل وأخلاق أكثر من كونها حضارة مادية، إذ اتجهت حضارتنا صوب الإنسان نفسه، في قلبه وعقله وروحه لتسمو به فوق كل ما يحط من شأنه أو يقيده بالمتطلبات الدنيوية وحدها، التي لم تهملها هذه الحضارة، ولكنها أعطت للبعد الأخروي أولوية أساسية، في حين اتجهت حضارة الغرب الحديثة صوب وسائل العيش
[ ص: 8 ] ومتطلباتها المادية الدنيوية، لتحتل الأولوية في بنائها الفكري والعملي بدافع الربح والكسب المادي، الذي هو ديدن هذه الحضارة وقطبها المحرك لأوجه فعالياتها المختلفة.
أما القيم الحضارية فهي جملة المعايير والضوابط، التي تحدد هوية أمة ما، وكيفية صياغتها لبنائها الحضاري، وتخضع لنسق يحدد أولوياتها.. أما مصدرها في التصور الإسلامي فهو إلهي، في حين ترى المجتمعات والحضارات الأخرى أن قيمها الحضارية غالبا ما تكونت عبر سلسلة من التفاعلات والمتغيرات الزمانية والمكانية، الأمر الذي يجعلها نسبية متغيرة.. أما إذا كان مصدرها إلهيا فهي ثابتة مطلقة في دلالاتها لتحدد هوية الأمة ومصيرها الدنيوي والأخروي.
ومن هنا فإن القيم الحضارية الإسلامية تتصف بالشمول الأفقي والعمودي، فمن حيث الشمول الأفقي، فإنها تمتد لتشمل أوجه الحياة كافة، من دون أن تقتصر على جوانب معينة منها، اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو غير ذلك. أما شمولها العمودي فيتمثل في كونها لا تقتصر على الحياة الدنيا، بل تربط هذه الحياة بالآخرة أيضا، كما إن محاورها تمثل علاقة الإنسان بخالقه، وبنفسه، وبمحيطه الإنساني، فضلا عن علاقته بمفردات بيئته أيضا.
وعليه، فإن القيم الحضارية تعد المفصل الرئيس في البناء الإنساني، فهي ترسم ملامح مثلى للحياة، فإذا سقطت أو ضعفت أو تراجعت تسبب ذلك في التدهور الأخلاقي والسلوكي، بل يقود الأمر إلى ما هو أسوأ، إذ تتراجع مكانة الأمة ودورها الحضاري على وجه العموم.
[ ص: 9 ]