3- بدء القتال:
وبعد مشاورات ومداولات عسكر المسلمون في منطقة تدعى (الرجيع) قريبة من حصون منطقة النطاة
>[1] ، التي كانت الهدف الأول للحملة، مبتعدين عن مرمى سهام اليهود، وبدأ المسلمون قتالهم مع يهود حصن ناعم، ودام القتال في محيطه سبعة أيام، يخرج المسلمون للقتال يتقدمهم النبي صلى الله عليه وسلم طول النهار، حتى إذا أمسوا عادوا إلى معسكرهم في الرجيع.. وفي اليوم الأول من القتال جرح خمسون من المسلمين بسهام اليهود، الذين امتازوا بمهارتهم في الرماية، كما ساعدهم مكانهم المرتفع في الحصن على إلحاق الأذى بالمسلمين، حتى فتح الله عليهم الحصن في اليوم السابع، مع أن الحمى كانت قد نالت منهم كثيرا
>[2] . وكانت معارك فتح حصن ناعم على درجة كبيرة من الشراسة، صمد فيها اليهود وطاولوا في القتال، وتقدم كبار قادتهم للمبارزة حتى قتلوا الواحد تلو الآخر. وفيها أيضا ظهرت الشجاعة الفائقة لعلي رضي الله عنه حتى فتح الله الحصن على يديه
>[3] .
ثم توجه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ، ذي الحصانة والمتانة والمنعة، وفيه خمسمائة مقاتل، وكان المسلمون قد أشرفت مؤنهم على النفاد، بل إن بعضهم لم يبق عنده ما يأكله، حتى شكوا ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهموا بأكل الحمر الأليفة.. بدأ القتال بمبارزات فردية تقليدية، وبعد قتال شرس جدا وحصار
[ ص: 33 ] لثلاثة أيام نجح المسلمون في فتح الحصن، فوجدوا فيه كميات كبيرة من الأطعمة المختلفة؛ وكان من شدة القتال أن بعض الهجمات اليهودية المرتدة كادت أن تصل إلى المكان الذي يشرف منه النبي صلى الله عليه وسلم على القتال، حتى شكل بعض المسلمين ترسا يحمون النبي صلى الله عليه وسلم من خطر هجمة اليهود
>[4] .
وعلى إثر هزيمة اليهود في حصن الصعب تحولوا إلى حصن قلعة الزبير، وكان شديد المنعة، صعب المسالك، لا تدركه الرجالة ولا الخيالة إلا بصعوبة بالغة، غير أن يهوديا دل المسلمين على منابع المياه، التي يستقي منها أهل الحصن، فحال المسلمون دون وصولها إليهم، فلم يتبق لديهم أية قدرة على المقاومة، ومع ذلك أظهروا اندفاعا في القتال استماتوا فيه، لكسر حصار المسلمين على حصنهم، لكنهم لم يفلحوا في ذلك، ففتح المسلمون الحصن واقتحموه، وكان ذلك آخر معارك منطقة النطاة
>[5] .
وعند فتح الحصن انهارت معنويات المقاتلين اليهود، فأخذوا بالهرب إلى حصون أخرى، فقال أحد المسلمين: "وجعلنا ندعهم يهربون"
>[6] .. وفي ظل هذا الانكسار كان بوسع المسلمين قطع الطريق على الفارين وإعمال السيوف في رقابهم، بيد أنهم لم يفعلوا ذلك، إذ لم يكن هدفهم الإبادة والقتل لمجرد القتل.
[ ص: 34 ] بعد الانتهاء من فتح حصون منطقة النطاة، توجه المسلمون نحو حصون منطقة الشق، واقتضى ذلك نقل المعسكر من منطقة الرجيع إلى منطقة المنزلة، التي عسكر المسلمون فيها أول قدومهم إلى خيبر، فتصدى المسلمون لحصن أبي، وكانت قلعة سمران تشكل مقدمة دفاعية عنه، فهاجمها المسلمون ودارت معارك حامية الوطيس، بدأت تقليديا بمبارزات فردية، وكان اليهود هم المبادرين إليها، وقتل فيها أكثر من واحد من أبرز مقاتليهم، مما بعث في المسلمين روحا معنوية عالية، فحملوا بقوة على الحصن "وتقحموا الجدر كأنهم الظباء"، فهرب اليهود إلى حصن النزار، وتبعهم المسلمون مستثمرين حماستهم المتصاعدة وانكسار معنويات العدو، وفي حصن النزار قاتل اليهود مرة أخرى أشد قتال، وكانوا أكثر أهل الشق إقداما فيه، ومن حصنهم استهدفوا المسلمين بالنبل والحجارة، حتى إن سهامهم أصابت ثياب النبي صلى الله عليه وسلم وعلقت بها
>[7] .
ويبدو أن المسلمين وجدوا أن من الضروري نصب المنجنيق، الذي غنموه من النطاة، لدك مقاومة حصن النزار
>[8] . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم "أخذ لهم كفا من حصا فحصب به حصنهم، فرجف بهم ثم ساخ في الأرض"
>[9] .
ويبدو أن فعل الرسـول صلى الله عليه وسلم هذا مع دك الحصـن بالمنجنيق قد ترافقا معا، مما تسبب في انهيار معنويات العدو فعجز عن المقاومة مما مكن المسلمين من اقتحام الحصن ليقع في الأسر من كان فيه، ومنهم صفية بنت حيي بن أخطب
[ ص: 35 ] وابنة عم لها. وبعد اقتحام الحصن قال النبي صلى الله عليه وسلم : "هذا آخر حصون خيبر كان فيه قتال"، وفعلا لم تقع بعد ذلك مصادمات قتالية بين الفريقين
>[10] .
تحرك المسـلمون بعد ذلك صوب الحصون الأخرى، ولاسيما حصن الكتيبة، الذي يحتل قلب الواحة الخيبرية، وقد لجأ إليه من اسـتطاع الهرب من حصـون النطاة والشق. وتحصن اليهود في الكتيبة أشد التحصين، وكذلك فعل أهل الوطيح والسلالم، الذين تحصنوا وغلقوا الأبواب، مقررين عدم الخروج من الحصن للقتال مهما كانت الأسباب.. وبعد حصار أربعة عشر يوما هم النبي صلى الله عليه وسلم بنصب المنجنيق عليهم لدك حصن القموص الحصن الرئيس في الكتيبة. إلا أن كنانة بن أبي الحقيق أرسـل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسـولا يدعوه إلى التفاوض، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على طلبه، فنزل كنانة نفسه لهذا الغرض، إذ ألقى الله سبحانه وتعالى الرعب في قلبه هو بالتحديد، فعندما تقدم الرسول صلى الله عليه وسلم نحو القموص وفرض الحصار عليه أراد اليهود القتال من وراء تحصيناتهم، فعمد كنانة إلى قوسه لرمي المسلمين بالنبل، إلا أن الرعدة أخذت قلبه فما استطاع حتى أن يوتر قوسه، فأومأ إلى أصحابه بالكف وعدم إنشاب القتال
>[11] .
نزل كنانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفاوضه على أن يحقن دماء اليهود من المقاتلة ويترك لهم أبناءهم ونساءهم ويخرجون من خيبر وأرضها، ويتركون للمسلمين كل ما في
[ ص: 36 ] الحصون، يخرجون بثيابهم، التي عليهم فقط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم موافقا: "وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا"، فوافق كنانة على ذلك، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن "كنز آل أبي الحقيق"، الذي كانوا يحتفظون به في مسك الجمل فقال: "يا أبا القاسم، أنفقناه في حربنا فلم يبق منه شيء، وكنا نرفعه لمثل هذا اليوم، فلم تبق الحرب واستنصار الرجال من ذلك شيئا"، وحلف هو ومن معه على ذلك، مؤكدين قولهم بأشد الأيمان، إلا أن رجلا ضعيفا من اليهود أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي يخفي فيه كنانة هذا الكنز، وفعلا وجده المسلمون في المكان الذي حدده، فتبين كذب كنانة ومن معه ومخالفتهم العهود والمواثيق والأيمان التي قطعوها، فقتل كنانة وأخوه
>[12] .
ولما هم اليهود بالجلاء عن خيبر، عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم البقاء في خيبر والقيام بأمر النخل والزرع مقابل نصف الثمر، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على عرضهم، على أن يبقوا في خيبر إلى أن يشاء المسلمون
>[13] .
وكان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأتي إلى خيبر في موسـم النضج، فيخرص (أي يقدر) المحصـول ويقرر المقاديـر، التي للمسـلمين وتلك التي لليـهود
>[14] . ويبدو أن هذا الاتفاق لم يقتصر على حصون الكتيبة بل شمل حصون الوطيح وسلالم أيضا، فالمصادر لم تتكلم عن أية أحداث بعد الاتفاق مع كنانة.
[ ص: 37 ] وعند هذا الحد، بلغت الأخبار يهود فدك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل إليهم محيصة بن مسعود يدعوهم إلى الاستسلام، لكنهم رفضوا، معتقدين أن صمود يهود خيبر سيوفر لهم عنصر القوة اللازم لعدم الاستسلام، إلا أن انهيار مقاومة هؤلاء، وعرضهم الاستسلام للنبي صلى الله عليه وسلم دفعهم إلى استباق تطور الأحداث بطريقة مماثلة لما حصل في خيبر، فعرضوا الاستسلام بالشروط نفسها التي استسلم بها يهود خيبر: البقاء في الأرض لزراعتها ومناصفة محصولها مع المسلمين، فكان لهم ذلك
>[15] ، ولما لم تشهد فدك قتالا غدت فيئا خالصا للنبي صلى الله عليه وسلم .
وعند انصراف الرسول صلى الله عليه وسلم من خيبر توجه إلى وادي القرى، التي لم يتعظ أهلها مما جرى لإخوانهم في خيبر أو في فدك، فآثروا القتال، ففتح الله للمسلمين حصنهم، وغنموا ما فيه، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أيام في وادي القرى، وأقر يهودها في الأرض يزرعونها مقابل نصف ثمرها. وعلى إثر هذه الأخبار استسلم يهود تيماء للمسلمين مقابل إعطاء الجزية لهم
>[16] .. وهكذا تم اخضاع مناطق اليهود كافة، التي كانت في شمال شبه الجزيرة العربية.
[ ص: 38 ]