ثالثا: التنظيم
مما لاريب فيه أن التنظيم من أبرز ملامح الحياة المتحضرة، وعلى وفق التنظيم تنسـاب الحياة سـلسة لتحقيق أعلى درجات الفائدة والنفع والإنجاز للإنسـان، وبما يبعد عنه أي هدر في قدراته وإمكاناته وموارده ووقته، حتى يبلغ درجات الارتقاء المنشودة.
من أجل ذلك لا بد من أن يكون التنظيم القاسم المشترك لمظاهر الحياة كافة على صعيد الفرد والأسرة والجماعة والمجتمع، وفي أوجه النشاط الحياتي كافة؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والفكرية، وما إلى ذلك.
ومما لا شك فيه أيضا أن العرب في شبه جزيرتهم كانوا على درجة كبيرة من الفوضى وانعدام النظام، واضطراب في القيم، وانعدام في المؤسسات السياسية والإدارية، وغياب المؤسسات القضائية والقانونية.. صراع محتدم ضرب أطنابه بعيدا في أعماق تاريخهم، ودوافعه في الغالب لا تمتلك أدنى مقومات المعقولية والقبول، وفوق كل ذلك فوضى في الآلهة التي عبدوها، فوضى صارخة تتجلى في أعداد كبيرة من الأصنام والأوثان في القبائل وحول الكعبة المشرفة.
وفي خضـم هذه الفوضى، بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ليخـرج بهـؤلاء القوم مما سدروا فيه من فوضى وجاهلية، ثم ليتولى هؤلاء بعد ذلك مهمة حمل الرسالة إلى الأقوام الأخرى لإخـراجها من الظـلمات إلى النـور، ولقـد نجـح النبي صلى الله عليه وسلم في تحقيق نقلة نوعية هائلة في حياة العرب كانت أولى حلقاتها محو الفوضى من حياتهم ووضعهم على جادة أعلى ما تكون من التنظيم.
[ ص: 63 ]
بدأ التنظيم يأخذ مجراه في حياة العرب وكانت أولى ملامحه في الصلاة، ومنها انتقلت تدريجيا إلى جوانب الحياة ومظاهرها كافة، وفي غضون عقدين ونيف من الزمن أصبحنا إزاء أمة تتمتع بتنظيم دقيق، تنامى باطراد حتى أنتج حضارة كانت من السمو والرقي ما تركت آثارها جلية في حياة الإنسانية حتى يومنا هذا. وفي معركة خيبر تجلت مظاهر عدة للتنظيم، وذلك على النحو الآتي:
1- التنظيم الإداري:
لم يعرف العرب في شبه الجزيرة العربية - سوى اليمن - أي شكل من أشكال التنظيم السياسي والإداري، بل كانت هناك كتلة هلامية غير واضحة المعالم والملامح تتشكل من الوجهاء تتولى بطريقة غير مباشرة الإشراف على الحياة العامة في المدن الرئيسة مثل مكة ويثرب والطائف، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأت تتبلور عملية التنظيم السياسي والإداري، وبدأت تتشكل ولايات إدارية في أنحاء شبه الجزيرة العربية يتولى إدارتها عمال يعينهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد أصبح هو رئيسا لهذه الدولة.
وبقدر تعلق الأمر بغزوة خيبر، فإن أول إجراء إداري عمد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه استخلف رجلا حل محله في المدينة يتولى الإشراف على حياتها العامة وشؤونها المختلفة طيلة غيابه عنها هو سباع بن عرفطة الغفاري رضي الله عنه وهو الراجح
>[1] ، وهو
[ ص: 64 ] من كبار الصحابة
>[2] . وقيل استخلف على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي رضي الله عنه
>[3] ، وقيل استخلف أبا ذر رضي الله عنه
>[4] .
ولما انتهت غزوة خيبر بالنصر الميمون، وقرر النبي صلى الله عليه وسلم العودة إلى المدينة فإنه "استعمل رجلا على خيبر"
>[5] ، وجاءت العبارة بشكل آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سواد بن غزية رضي الله عنه (وأمره على خيبر)
>[6] .. وأمره على خيبر: أي جعله أميرا عليها
>[7] . وكان سواد أمير خيبر يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم بين وقت وآخر، وجاء في إحدى المرات بتمر عالي الجودة (جنيب) سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم
>[8] ، ويبدو أن قدومه كان إما لأمور تتعلق بطبيعة عمله أو لأسباب شخصية.
وثم تنظيم آخر ظهر في غزوة خيبر، وهو ما يتعلق بالجانب الإداري في شـأن الغنائم، وهنا لدينا ثلاثة أخبار؛ يقول الأول منها: إن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل
[ ص: 65 ] فـروة بن عمرو البيـاضي رضي الله عنه على الغنـائـم
>[9] ، وفي رواية أنه اسـتعمل كعب ابن عمرو بن زيـد الأنصـاري رضي الله عنه
>[10] . على أنه بوسـعنا ترجيـح القول الأول؛ لأن الخزاعي يعد متأخرا بالنسبة للواقدي وابن سعد. ويبدو أن فروة بن عمرو البياضي رضي الله عنه كان مشرفا عاما على الغنائم.
أما الخبر الثاني فيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل السعدين؛ سعد بن أبي وقاص وسعد بن عبادة، رضي الله عنهما، على الغنائم
>[11] ، وربما كانت مهمتهما الإشراف على بيع الغنائم
>[12] .
أما الخبر الثالث فيقول: إن أبا جهيمة كان على سياقة غنم خيبر حين فتحها المسلمون
>[13] . وإن جاء الخبر أحيانا بصيغة أخرى أنه كان "على ساقة غنائم خيبر"
>[14] . وأرى أن القول الأول هو الصواب، بمعنى أنه كان مسؤولا على هذا الصنف من الغنائم، إذ يترجح حصول المسلمين على أعداد كبيرة من الماشية، وهي بحاجة إلى من يتولى الإشراف عليها والقيام بما تحتاج إليه قبل توزيعها.
[ ص: 66 ]
وثمة وظيفة أخرى شهدتها غزوة خيبر هي الوظيفة الإحصائية، ففي الخبر ("وكان الذي ولي إحصاء الناس زيد بن ثابت، فأحصاهم ألف وأربعمائة، والخيل مئتي فرس"
>[15] . وهي وظيفة ارتبطت - على ما يبدو - بعملية توزيع الغنائم على المشتركين في غزوة خيبر. وهي وظيفة تعكس درجة عالية من التنظيم والعمل المنظم ومغادرة حال العشوائية والارتجال في العمل والقرارات.
وظهرت في غزوة خيبر وظيفة أخرى، وإن كانت ذات طابع عسكري وإداري في الوقت نفسـه تتمثل بوظيـفة المشـرف على معسـكر المسـلمين؛ فلما عسكر المسلمون في منطقة الرجيع، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقود المسلمين نحو القتال ويستخلف عثمان بن عفان رضي الله عنه على المعسكر
>[16] . ولا سيما أن المعسكر كان يضم أحمال الجيش والمستشفى الميداني والنساء اللواتي يقمن على تمريض الجرحى، الذين كثر عددهم في اليوم الأول من القتال حتى بلغوا خمسين مصابا
>[17] .
كما ظهرت وظيفة عسكرية أخرى تتثمل بحراسة المعسكر ليلا لمنع أية محاولات للتسلل أو الإغارة عليه، وتأمين من في داخله آمنين من أي خطر
>[18] ، وهو عمل يحتل - بلا شك - أهمية كبيرة في ظروف حرب قائمة فعلا.
أما الوظيفة الأخيرة، وقد ظهرت بعد الانتهاء من المعركة وعقد الصلح مع اليهود على القيام بالأرض وزراعتها مناصفة بينهم وبين المسلمين؛ وهذا الأمر
[ ص: 67 ] تطلب أن يكون هناك (خارص) يقدم إلى خيبر في مواسم نضج المحاصيل والثمار لتقدير كمياتها، ومن ثم تقرير مقدار حصة كل من المسلمين واليهود، وكان أول من تولى هذه الوظيفة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، الذي كان قد رضع في خيبر، ففرح اليهود به معتقدين أن ذلك سيجعله يميل إلى جانبهم في تقدير المحاصيل والثمار.
فلما قدم عليهم سألوه: "كيف أنت وكيف صاحبك الذي تركت وراءك؟ فقال: أما أنا فصالح، وأما صاحبي فو الله لهو أحب إلي من نفسي التي بين جنبي، ولأنتم أبغض إلي من عدوكم من القردة والخنـازير! فقالوا: فكيف تعدل علينا؟ قال: لن يحملني حب صـاحبي على أن أجور له عليكم، ولا يحملني بغضي لكم أن لا أعدل عليكم، قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض"
>[19] . وكانوا قد استقبلوه بالهدايا، فقال: "لا إرب لي بهداياكم " مؤكدا قيامه بعمله على وجه الحق والعدل
>[20] .
ولما استشهد عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في معركة مؤتة أعقبه في عمله هذا عدة أشخاص منهم أبو خيثمة
>[21] ، كما تولاها جبار بن صخر بن أمية الأنصاري
>[22] ، وربما كان جبار بن صخر هو الذي أعقب عبد الله بن رواحة مباشرة بعد استشهاده في مؤتة، رضي الله عنهم.
[ ص: 68 ] 2- الرايات والشعارات:
من متطلبات الحرب المعنوية والاعتبارية في ميدان القتال وجود الرايات والشعارات. أما الراية ومعها اللواء فهي من المتطلبات القديمة قدم التاريخ، إذ أن أهميتها المعنوية بالغة وكبيرة بل وخطيرة، فحولهما يلتف الجند ويستبسلون في القتال ويستميتون في الدفاع عنهما، لأن سقوط الراية أو اللواء يعني انكسارا حادا قد أصاب الجيش في المعركة في قلبه، فهما - الراية واللواء - تكونان بيد قائد الجيش أو بجانبه، ومن ثم فإن سقوطهما يعني أن العدو قد وصل إلى قلب الجيش وأن قائده قد قتل أو وقع في قبضة العدو. وإذ ما تراجعت الراية أو اللواء فإن هذا يعني أن على الجيش التراجع والانسحاب، أو أن الهزيمة قد حلت به. ومن ثم فإنهما يحتلان قيمة رمزية عالية جدا، وتسهمان في ضبط بوصلة القتال في الميدان.
والراية واللواء قطعتان من القماش تربطان على سارية مرتفعة، وقد تكون عليهما كتابات أو رموز ما. وقد عرف المسـلمون الرايات والألوية في معاركهم منذ البدء، إلا أنهم رفعوا الألوية فقط حتى معركة خيبر، التي رفعت الرايات فيها لأول مرة
>[23] .
والراية علم الجيش، وتكنى أم الحرب، وهي فوق اللواء
>[24] ، أي أعلى منه مرتبة ومكانة. أما اللواء فهو الآخر علم، وسمي لواء لأنه يلوى لكبره، فلا ينتشر
[ ص: 69 ] إلا عند الحاجة
>[25] . وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من برد لعائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وكانت تدعى العقاب، أما اللواء فكان أبيضا
>[26] . ويبدو أن الراية كانت لقائد الجيش في صولته على العدو، وإلى جانبه ألوية أصغر حجما تكون بمعية القادة الفرعيين في القتال.
أما كون الراية سوداء فلأنها تكون أبين وأوضح في النهار، عندما يكون الجو صافيا أو حتى مغبرا، أما اختيار اللون الأبيض للألوية فذلك لأن البياض هو المحبب من الثياب إلى الله تعالى
>[27] .
ومن اللافت أن الاضطراب وقع كثيرا في تناقل أخبار الرايات والألوية في غزوة خيبر، فتداخلت المسميات، مما يشير إلى صعوبة تمييز المؤرخين بينهما. من ذلك مثلا أن ابن سعد ذكر أن الذي دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه كان اللواء الأبيض
>[28] ، في حين ذكر ابن هشام أن الذي دفع إلى علي رضي الله عنه هو الراية، وكانت بيضاء
>[29] ، في وقت ذكرت المصادر أن الراية كانت سوداء وكان اللواء أبيضا.
وكانت الرايات يوم خيـبر ثلاث، ومـع أن المفهـوم من سياق الأحـداث أن هناك رايتان واحدة للأنصار والأخرى للمهاجرين، وراية ثالثة تكون إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم . إلا أن المصـادر تذكر كثيرا أن الرايتان كانتا مع الحبـاب بن المنذر
[ ص: 70 ] وسعد بن عبادة، رضي الله عنهما، وكلاهما من الأنصار
>[30] . غير أنها دفعت في بعض الصولات إلى كل من أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما
>[31] .
أما بالنسـبة للشعـار فهـو قـول يتعارف به القـوم في الحرب أو السـفر
>[32] . إذ أن ظروف القتال المعقدة قد تتسبب في ارتباك بعض المقاتلين فيضلوا عن أصحابهم وفرقتهم، عندها ينادى بشعارهم، وقد يكون لأصحاب كل راية شعارهم الخاص أيضا.. واتخاذ الشعار عمل تنظيمي وليس من واجبات الدين
>[33] . وكان شعار المسلمين يوم خيبر: "يا منصور، أمت أمت"
>[34] . وقيل كان شعارهم: "أمت أمت"
>[35] . وربما كان كلا القولين صحيحا يوصف أن لكل راية شعار خاص بها أيضا. وذلك هو الأرجح على ما يبدو.
ومن اللازم بيـان أن شعار "يا منصور، أمت" لا يراد بـها المنـاداة كقولنا: يا الله أو يا رب، بل هو خطاب للمقاتلين، ويعني: يا أيها المقاتل أنت منصور فاضرب عدوك بقوة واقتله، ومن ثم فليس له دلالات عقدية، كما قد يفهم من ظاهر الشعار لأول وهلة.
[ ص: 71 ] 3- تنظيم توزيع الغنائم:
غالبا ما كانت تنتهي الحروب في العصور القديمة والوسطى بالحصول على الغنائم التي يخلفها المنهزم وراءه ويستحوذ عليها المنتصر عنوة. وهذه يمكن تقسـيمها إلى عـدة أقسام أهمها وأكبرها الأموال والأمتعة والأسلحة والأراضي وما إلى ذلك. ثم الأطعمة، وأخيرا سلب المقاتل.
فأما سلب المقاتل، وهو في الغالب سلاحه فهو نفل لمن يقتله. وفي غزوة خيبر اختصم علي بن أبي طالب ومحمد بن مسـلمة، رضي الله عنهما، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلب مرحب اليهودي. فنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيف مرحب ودرعه ومغفره وبيضته
>[36] .
أما بالنسبة للطعام فكان السياق فيه أن يأخذ المقاتل حاجته منه ولا يحمل معه شيئا إلى بلده، فلما فتح المسلمون حصن الصعب بن معاذ، وجدوا فيه أنواعا من الأطعمة وبمقادير كبيرة ما لم يظنوا أن هناك مثله كالشـعير، والتمر، والسـمن، والعسـل، والزيت، والودك.. فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كلوا واعلفوا ولا تحتملوا".. فكان الطعام لا يخمس
>[37] . وكذلك من احتاج إلى سلاح فله أن يأخـذ منه حاجتـه، فإذا انتهـى القتال أعيد إلى المغنم ولا يؤخـذ شخصيا
>[38] ، أي لا يأخذه المقاتل إلى بلده قبل قسمة الغنائم.
[ ص: 72 ] ولما كان المسلمون قد مسهم الجوع والخصاصة في غزوة خيبر، لقلة ما حملوه معهم من طعام ولطول مدة القتال في خيبر، كان لا بد من مراعاة هذه الجانب عند الحصول عليه من العدو. إذ لا يمكن انتظار وقت توزيع الغنائم ليحصل المقاتلون على حاجتهم من الطعام. وهكذا فقد أصاب المسلمون غنما من عدوهم فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بعضها بين المقاتلين بقدر حاجتهم، ثم أحيلت البقية الباقية منها إلى الغنائم لتأخذ مكانها عند التوزيع العام لها
>[39] .
أما بالنسبة لتوزيع الغنائم فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر على ستة وثلاثين سهما، اتخذ منها ثمانية عشر سهما (لنوائبه وما ينزل به من أمر المسلمين) وهذا الشطر تمثل بحصون الكتيبة والوطيح والسلالم وتوابعها. أما الشطر الآخر وهو ثمانية عشر سهما فقسمت بين المسلمين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم فيها كأحدهم، أي له سهم المقاتل، وجعل لكل مئة منهم سهما
>[40] . وكان معظم من تناول الموضوع على هذا القول
>[41] . أما لماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلأن خيبر لم تفتح كلها عنوة، بل فتح شطرها عنوة وهو منطقتي النطاة والشق، أما مناطق الوطيح والكتيبة والسلالم فقد فتحت صلحا، وما يفتتح صلحا يكون فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ينفقه
[ ص: 73 ] في أمور المسلمين وخاصته هو أيضا
>[42] .
وقد خالف بعضهم هذا القول؛ بأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم خيبر ثلاثة أقسام جعل منها قسمين بين المسلمين والقسم الثالث لنفقة أهله، فما زاد جعله في فقراء المسلمين
>[43] . وقال بعضهم: إن الكتيبة كانت لوحدها خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقسمت المناطق الأربع الأخرى بين من حضر من المسلمين
>[44] .
ومما يمكن قوله: إن الكتيبة والوطيح والسلالم، لم تكن خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانت فيئا له. وعلى هذا الأساس فإنه تم تقسيم غنائم النطاة والشق خمسة أقسام الخمس منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا، والأربعة أخماس الأخرى جرى توزيعها بين المسـلمـين. أما الأخمـاس الأربعة فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببيعها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لها بالبركة، فتواثب الناس على شرائها
>[45] ، بما في ذلك يهود خيبر، إذ أقدموا على الشراء بنطاق واسع
>[46] .
وقسمت الغنائم على أهل الحديبية، من شهد منهم خيبر ومن لم يشهدها. ولم يغب عنها إلا جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبه منها
>[47] . وسنشير إلى حالات أخرى نال فيها آخرون حظا من غنائم خيبر. وكانت
[ ص: 74 ] الغنائم -كما قلنا - ثمانية عشر سهما، لكل مائة شخص سهم، وعلى النحو الآتي: كان عدد المقاتلين ألفا وأربعمائة مقاتل لكل شخص سهم واحد. وكان مع المسلمين مائتا فرس، لكل فرس سهمان، وهكذا يجتمع ألف وثمانمائة سهم
>[48] ، وهذا على أدق الأقوال وأصوبها. وقدم بعضهم أرقاما تختلف بعض الشيء تفيد أن الذين شهدوا الحديبية (1540) منهم أربعون كانوا مع جعفر بن أبي طالب عند قدومه من الحبشة، وأنه كان مع المسلمين مائتا فرس
>[49] ، مما يجعل الأسهم أكثر مما هو متداول. وقد استقر الحال على أن الراجل له سهم واحد، وللفرس سهمان، بمعنى أن الفارس له ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه
>[50] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج يوم خيبر بثلاثة أفراس، وخرج الزبير بن العوام ومعه أفراسا عدة، وكان خراش بن الصمة قد قاد فرسين، كما خرج البراء بن أوس بفرسين أيضا، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من كان معه فرسان بخمسة أسهم، أربعة لفرسيـه وسهم له، فمـا كان أكثر من فرسـين لم يسهم له، وقيـل بل إنه لم يسهم إلا لفرس واحد، وذلك ما رجحه الواقدي
>[51] .
ومما قيل أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم عرب العربي وهجن الهجين، أي أثبت الفرس العربي الأصيل فأسهم له ولم يسهم للهجين، إلا أنه ثم من قال أن عهد النبي صلى الله عليه وسلم
[ ص: 75 ] لم يشهد سوى الفرس العربي الأصيل، وأن الهجين ظهر في وقت لاحق
>[52] .
ومن ناحيـة أخرى، فإن سـويد بن النعمـان رضي الله عنه خـرج بفرسـه، إلا أن فرسه أصابه العطب، وكسرت يد سويد نفسه، فلم يخرج من مكانه حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فأسهم له النبي صلى الله عليه وسلم ولفرسه
>[53] .
وعـودة إلى طريقـة توزيع الأسـهم، فـقد قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لكل مائـة سـهما، وجـعل على رأس كل مائـة من يتولى أمرهم والتوزيـع عليهم؛ وكان ممن تولى هذه الرئاسـة على المئات: عاصم بن عدي، وعلي بن أبي طالب، وعبـد الرحمن بن عوف، وطلحـة بن عبيـد الله، وسـهم بن سـاعدة، وسهم بني النجار لهم رأس. وسهم بني حارثة بن الحارث، وسهم أسلم وغفار، وسهم بني سلمة، وكان رأسهم معاذ بن جبل، وسهم أوس، وسهم بني الزبير، وسهم أسيد بن حضير، وسهـم بالحـارث بن الخزرج وراسه عبد الله بن رواحة، فهذه الثمانية عشر سهما في الشق والنطاة، يقبض رؤساؤهم الغلة ثم يوزعونها عليهم، ويجوز للرجل أن يبيع سهمه
>[54] .
وهكذا صارت كل أرض زراعية في خيبر لقوم مخصوصين من المسلمين هي لهم، وغلتها تعود إليهم تحديدا
>[55] ، وكل ذلك يعكس دقة في التنظيم هدفه تحقيق
[ ص: 76 ] أعلى درجة من الدقة في وصول الحقوق إلى أصحابها.
هل أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لأحد غير أصحاب الحديبية؟
تردد القول في ذلك، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لجماعة من اليهود خرجوا مع المسلمين في غزوتهم هذه لم يذكر عددهم
>[56] . وقيل: كانوا عشرة
>[57] ، وقيل: كانوا رجلين
>[58] ، وأسهم النبي صلى الله عليه وسلم للسفير الذي تردد بينه وبين يهود فدك وهو محيصة بن مسعود ومن معه
>[59] .
كما أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب السفينة، أو أصحاب السفينتين، وهم الجماعة الذين كانوا مع جعفر بن أبي طالب في الحبشة، إذ وافوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فتحت خيبر، وكان معهم جماعـة من اليمن خرجوا في سفينة يريدون اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الرياح أخذتهم إلى الحبشة فمكثوا فيها وانضموا إلى المسلمين الذين كانوا هناك، ثم جاءوا معهم إلى خيبر، فأسهم لهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان على رأسهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ، وعددهم مختلف فيه
>[60] .
وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لهم من الغنيمة
>[61] ، وذلك بعد أن استأذن
[ ص: 77 ] المسلمين في ذلك فأذنوا له
>[62] ، بوصف أن الغنائم كانت من حقهم دون غيرهم، وذلك لشدة احتياجهم إلى أن يسهم لهم، فقد قدموا من مهجرهم وليس معهم شيء
>[63] . وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لهم بل منحهم من الخمس، الذي له أن يتصرف به في الوجوه التي يراها
>[64] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل جماعة في مهمة قتالية تجاه نجد وكان على رأسهم إبان بن سعيد بن العاص رضي الله عنه ، فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر، فلم يسهم لهم
>[65] . وأسهم النبي صلى الله عليه وسلم لمن شهد خيبر ولم يكن ممن شهد الحديبية
>[66] . وأسهم لثلاثة أشخاص شهدوا خيبر ولم يقاتلوا بسبب مرضهم، وأسهم لمن استشهد في خيبر
>[67] .
وأخيرا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم منح كل دجاج خيبر لأحد المسلمين وكان قد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم عند فتح النطاة، فسمي من يومها لقيم الدجاج
>[68] .
أما من شهد خيبر ولم يسهم لهم فهم العبيد والنساء. فقد حضر أحدهم وكان عبـدا مملوكا مع سيـده في خيـبر، ولما انتـهى القتال ووزعت الغنائم سأل
[ ص: 78 ] النبي صلى الله عليه وسلم أن يسهم له، فأعطاه شيئا ولم يسهم له
>[69] ، بوصف أن العبد المملوك ملك لسيده، وأن ما سيسهم له به سيذهب إلى سيده الذي سيسهم له أصلا.
كما تتابعت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم للنسـاء اللواتي شهدن خيبر، بل أعطاهن أشياء من الغنائم لا تبلغ مقدار السهم
>[70] ؛ لأنهن لم يباشرن القتال، مع أن بعض الروايات التي لا يعتد بها أفادت أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لهن، والصواب أنه رضخ لهم، أي أعطاهن أشياء من الغنيمة لا تبلغ مقدار السهم
>[71] .
هذا وللنبي صلى الله عليه وسلم حقوق خاصة في الغنائم من ذلك الخـمس، فقـد كان للنبي صلى الله عليه وسلم الخمس من كل مغنم غنمه المسلمون، شهده الرسول صلى الله عليه وسلم أو لم يشهده
>[72] . ومن هذا الخمس ينفق النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بيته وبني عبد المطلب واليتامى، وأنفق منه على السلاح والكسوة
>[73] . والحقيقة أن للنبي صلى الله عليه وسلم شخصيا خمس الخمس من ذلك
>[74] . استنادا إلى قول الله سبحانه:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل (الأنفال:41).
[ ص: 79 ]
وللنبي صلى الله عليه وسلم أيضا ما يصطفيه من كل غنيمة إما فرس أو سيف أو جارية
>[75] . كما أن للنبي صلى الله عليه وسلم سـهمه أيضا من توزيع الغنـائم، وقد كان سـهمه يوم خيبر مع عاصم بن عدي
>[76] . أي أن للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة حقوق: سهمه في الأربعة أخماس، التي توزع على المقاتلين، وخمس الخمس، وما يصطفيه من الغنيمة.
وفي غزوة خيبر حرمت أشياء عديدة، منها ما سبق تحريمه وجرى تأكيده هنا، ومنها ما جرى تحريمه في خيبر. وأبرز ما جاء في هذا السياق هو تحريم الغلول. والغلول أن يأخذ المرء من الغنيمة ما لا يحل له قبل أن تقسم. فقد نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عار وشنار ونار يوم القيامة"
>[77] .
وقد أقبل نفر من المسـلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان قد اسـتشهد، وفلان وفلان، حتى أتوا على ذكر رجل فذكروه بالشهادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "كلا، إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة"
>[78] . وكان قد أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم غـلام يـدعى مدعـم، وكان النـبي صلى الله عليه وسلم قد وجـهه إلى وادي القـرى مع قـوة من المسـلمين، فأصـابه سـهم فقتله، فقال المسـلمون: هنيئا له الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة - أي الرداء- التي
[ ص: 80 ] أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا"
>[79] .
وتوفي رجل من (أشجع) ، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صلوا على صاحبكم" ولم يصل عليه هو، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن صاحبكم غل في سبيل الله"... فقال أحدهم: ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يسوى درهمين
>[80] .
وهنا بدأ بعض المسلمين بالاعتذار إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما غلوه - وكان يسيرا - فقال أحدهم: يا رسول الله، أصبت شراكين لنعلين لي. فقال : "قد لك مثلهما من النار"
>[81] .. وكان فروة بن عمرو المسؤول عن المغانم قد أخذ عصابة عصب بها رأسه يستظل بها من الشمس فأخبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "عصابة من نار عصبت بها رأسك"
>[82] ، وما ذلك إلا من أجل ضبط سلوك المسـلمين إزاء الغنائم بما يحفظ حقوق الأمـة من أن تمتـد إليها الأيدي من دون وجه حق، وتدريب للأمة على حال من الضبط والانضباط والتنظيم توجه سلوكها الوجهة الحضارية الصحيحة.
وكان بعض المسـلمين قد سأل النـبي صلى الله عليه وسلم أن ينفله شـيئا من الغنائم قبل تقسيمها فقال: "لا يحل لي من الفيء خيط ولا مخيط، لا آخذ ولا
[ ص: 81 ] أعطي".. وسأله آخر عقالا فقال :"حتى نقسم الغنائم ثم أعطيك عقالا"
>[83] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ عقدا من كنز ابن أبي الحقيق فأعطاه لعائشة أو بعض بناته، فانصرفت، فلم تمكث إلا ساعة حتى فرقته في أهل الحاجة من الفقراء والمساكين، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلما آوى إلى فراشه تذكر ما صنع بالعقد، فلم ينم ليلتها حتى غدا في السحر إلى التي أعطاها العقد، فأراد أن يستعيده، فأخبرته ما صنعت به، فحمد الله وانصرف
>[84] ، وهي رواية يمكن أن يتسلل الشك إليها، فلا السيدة عائشة ولا أحد من بناته رافقت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوته هذه، وكان توزيع الغنائم قد تم أصلا قبل عودة المسلمين إلى المدينة، فهل يعقل أنه أخذ العقد وذهب به إلى المدينة ليعطيه إحداهن، ثم يعود إلى معسكر المسلمين، إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذه واحتفظ به معه حتى عاد إلى المدينة ليعطيه لإحداهن هناك، هذا مما لا يمكن قبوله.
ومن ناحية أخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب عقوبة مادية أحدا وجد عنده غلولا، ولم يحرق رحل أحد وجد فيه غلولا، ولكنه كان يعنف ويؤنب على ذلك تعزيرا له
>[85] ، وهو بذلك يتوسط في الأمور من غير إفراط ولا تفريط، تأكيدا لمنهج الوسطية والاعتدال، الميزة ذات الأهمية البالغة، التي ميزت الإسلام من غيره من الأديان، فلم يعاقب ماديا ولم يتجاهل الأمر، بل عزر فيه بالقول فقط، وهو منهج تربوي قويم.
ومن الأمور التي حرمها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر الـمجـثــمة والخلسة والنهبة.
[ ص: 82 ] أما الـمجـثــمة فهي الحيوان الذي يقيد ثم يرمى بالسهام. أما الخلسة فهي المال الذي يؤخذ خلسة وخداعا، أما النهبة فهي ما ينهب من الغنيمة
>[86] . فقد ورد في الأخبار أن بعض المسلمين نهبوا غنما كانت قد وقعت في أيديهم، ثم قاموا بذبحها وطهيها في القدور، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الصنيع أمر بإراقة القدور فقال: "أكفئوها، فإن النهبة لا تحل"
>[87] ، مع أنهم فعلوا ما فعلوا بدافع الحاجة في الأغلب، ولكن يبقى الصواب هو التوجيه التربوي السليم، الذي يحفظ للأمة قيمها وانضباطها، ولاسيما في الظروف الاستثنائية، كما هي الحال في أوقات الحروب، إذ تكون الحاجة ماسة لأعلى درجات الانضباط.
كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعامل بطريقة جائرة وغير مناسبة مع بعض أمور الغنائم، فقال صلى الله عليه وسلم : ..."لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها - أي أصبحت هزيلة- ردها فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه -أي مزقه- رده فيه"
>[88] ، وذلك من أجل تدريب الناس أيضا على التـعامل مع المال العام بطريـقة حضـارية تحافـظ عليه ولا تعرضـه للتلف، في سياق ضبط السلوك والارتقاء به نحو الأمثل والأفضل.
ولما كثر البيع والشراء في غنائم خيبر حذر النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أنواع البيوع
[ ص: 83 ] التي فيها مزايا ربوية، من ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع تبر الذهب بالذهب العين، وتبر الفضة بالورق العين، وقال: "ابتاعوا تبر الذهب بالورق - أي الفضة- العين، وتبر الفضة بالذهب العين"
>[89] . تحاشيا من الوقوع في الربا.
[ ص: 84 ]