صفحة جزء
146 - مسألة : ولا يجوز استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول ، لا في بنيان ولا في صحراء ، ولا يجوز استقبال القبلة فقط كذلك في حال الاستنجاء .

حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى قال قلت لسفيان بن عيينة : سمعت الزهري يذكر عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا } ؟ قال سفيان نعم .

وقد روى أيضا النهي عن ذلك أبو هريرة وغيره ، وقد ذكرنا قبل حديث سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم { : ألا يستنجي أحد مستقبل القبلة } ، في باب الاستنجاء .

وممن أنكر ذلك أبو أيوب الأنصاري - كما ذكرنا - في البيوت نصا عنه ، وكذلك [ ص: 190 ] أيضا أبو هريرة وابن مسعود ، وعن سراقة بن مالك ألا تستقبل القبلة بذلك ، وعن السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جملة ، وعن عطاء وإبراهيم النخعي ، وبقولنا في ذلك يقول سفيان الثوري والأوزاعي وأبو ثور ومنع أبو حنيفة من استقبالها لبول أو غائط ، وكل هؤلاء لم يفرق بين الصحاري والبناء في ذلك ، وروينا من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر : أنه كان يكره أن تستقبل القبلتان بالفروج ، وهو قول مجاهد .

قال أبو محمد : لا نرى ذلك في بيت المقدس ، لأن النهي عن ذلك لم يصح .

وقال عروة بن الزبير وداود بن علي : يجوز استقبال الكعبة واستدبارها بالبول والغائط ، وروينا ذلك عن ابن عمر من طريق شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن نافع عن ابن عمر ، وروينا عن ابن عمر من طريق أبي داود عن محمد بن يحيى بن فارس عن صفوان بن عيسى عن الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر عن ابن عمر أنه قال : إنما نهي عن ذلك في الفضاء ، وأما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس ، وروينا أيضا هذا عن الشعبي ، وهو قول مالك والشافعي .

فأما من أباح ذلك جملة فاحتجوا بحديث رويناه عن ابن عمر في بعض ألفاظه { رقيت على بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا لحاجته مستقبل القبلة } وفي بعضها { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول حيال القبلة } وفي بعضها : { اطلعت يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهر بيت يقضي حاجته محجورا عليه بلبن فرأيته مستقبل القبلة } .

وبحديث من طريق جابر { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها } وبحديث من طريق عائشة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده أن [ ص: 191 ] ناسا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد فعلوها ؟ استقبلوا بمقعدتي القبلة } .

قال علي : لا حجة لهم غير ما ذكرنا ، ولا حجة لهم في شيء منه .

أما حديث ابن عمر ، فليس فيه أن ذلك كان بعد النهي ، وإذا لم يكن ذلك فيه فنحن على يقين من أن ما في حديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل أن ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، هذا ما لا شك فيه ، فإذا لا شك في ذلك فحكم حديث ابن عمر منسوخ قطعا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، هذا يعلم ضرورة ومن الباطل المحرم ترك اليقين بالظنون ، وأخذ المتيقن نسخه وترك المتيقن أنه ناسخ .

وقد أوضحنا في غير هذا المكان أن كل ما صح أنه ناسخ لحكم منسوخ فمن المحال الباطل أن يكون الله تعالى يعيد الناسخ منسوخا والمنسوخ ناسخا ولا يبين ذلك تبيانا لا إشكال فيه ، إذ لو كان هذا لكان الدين مشكلا غير بين ، ناقصا غير كامل ، وهذا باطل ، قال الله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } وقال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } [ ص: 192 ]

وأيضا فإنما في حديث ابن عمر ذكر استقبال القبلة فقط ، فلو صح أنه ناسخ لما كان فيه نسخ تحريم استدبارها ، ولكان من أقحم في ذلك إباحة استدبارها كاذبا مبطلا لشريعة ثابتة ، وهذا حرام ، فبطل تعلقهم بحديث ابن عمر .

وأما حديث عائشة فهو ساقط ; لأنه رواية خالد الحذاء - وهو ثقة - عن خالد بن أبي الصلت وهو مجهول لا يدرى من هو ، وأخطأ فيه عبد الرزاق فرواه عن خالد الحذاء عن كثير بن الصلت ، وهذا أبطل وأبطل ; لأن خالدا الحذاء لم يدرك كثير بن الصلت ، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة ، لأن نصه يبين أنه إنما كان قبل النهي ; لأن من الباطل المحال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن استقبال القبلة بالبول والغائط ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك ، هذا ما لا يظنه مسلم ولا ذو عقل ، وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم ، فلو صح لكان منسوخا بلا شك ، ثم لو صح لما كان فيه إلا إباحة الاستقبال فقط ، لا إباحة الاستدبار أصلا ، فبطل تعلقهم بحديث عائشة جملة .

وأما حديث جابر فإنه رواية أبان بن صالح وليس بالمشهور ، وأيضا فليس فيه بيان أن استقباله القبلة عليه السلام كان بعد نهيه ، ولو كان ذلك لقال جابر ، ثم رأيته ، وأيضا فلو صح لما كان فيه إلا النسخ للاستقبال فقط ، وأما الاستدبار فلا أصلا ، ولا يحل أن يزاد في الأخبار ما ليس فيها ، فيكون من فعل ذلك كاذبا ، وليس إذا نهى عن شيئين ثم نسخ أحدهما وجب نسخ الآخر ، فبطل كل ما شغبوا به وبالله تعالى التوفيق ، وسقط قولهم لتعريه عن البرهان .

وأما من فرق بين الصحاري والبناء في ذلك فقول لا يقوم عليه دليل أصلا ، إذ ليس في شيء من هذه الآثار فرق بين صحراء وبنيان ، فالقول بذلك ظن ، والظن أكذب الحديث ، ولا يغني عن الحق شيئا ، ولا فرق بين من حمل النهي على الصحاري دون البنيان ، وبين آخر قال بل النهي عن ذلك في المدينة أو مكة خاصة ، وبين آخر قال في أيام الحج خاصة ، وكل هذا تخليط لا وجه له .

وقال بعضهم : إنما كان في الصحاري ، لأن هنالك قوما يصلون فيؤذون بذلك .

قال أبو محمد : هذا باطل ; لأن وقوع الغائط كيفما وقع في الصحراء فموضعه [ ص: 193 ] لا بد أن يكون قبلة لجهة ما ، وغير قبلة لجهة أخرى ، فخرج قول مالك عن أن يكون له متعلق بسنة أو بدليل أصلا ، وهو قول خالف جميع أقوال الصحابة رضي الله عنهم إلا رواية عن ابن عمر قد روي عنه خلافها ، وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية