صفحة جزء
1759 - مسألة : ولا تجوز الوصية بما لا ينفذ لمن أوصى له بها ، أو فيما أوصى به ساعة موت الموصي - : مثل أن يوصي بنفقة على إنسان مدة مسماة ، أو بعتق عبد بعد أن يخدم فلانا مدة مسماة قلت أو كثرت ، أو يحمل بستانه في المستأنف ، أو بغلة داره ، وما أشبه ذلك : فهذا كله باطل لا ينفذ منه شيء ، وهذا مكان اختلف الناس فيه - : فروينا من طريق ابن وهب عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب : أنه قال فيمن أوصى لآخر بغنم حياته أنه جائز ، ويكون للموصي له من الغنم ألبانها وأصوافها وأولادها مدة حياته ; لأنه يعمل فيها ويقوم عليها ، وليس له أن يأكل منها إلا بقدر ما كان ربها يأكل من عروضها ، وكذلك يصيب من أولادها ما يصيب من أمهاتها .

قال أبو محمد : وهذا قول ظاهر الخطأ ، أول ذلك : أن جعل له أصوافها وألبانها وأولادها مدة حياته ; لأنه يقوم عليها فهذه إجارة إذا ، والإجارة بمجهول على مدة مجهولة [ ص: 365 ] باطل لا يحل ، وأكل مال بالباطل ، وشرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل - ثم لم يجعل له أن يأكل من أعيان الغنم إلا ما كان يأكل الموصي منها ، وهذا في غاية البطلان ; لأنه مجهول ، وقد كان يمكن أن يأكل منها الكثير في العام ويمكن أن لا يأكل منها شيئا ويمكن أن يأكل منها قليلا - فهذا أيضا أكل مال بالباطل ، وقد كان للموصي أن يبيعها ; ويهبها ، ويبيع منها ، فهلا جعل للموصى له أن يبيع منها ، وأن يهب كما كان للموصي ، وإلا فما الفرق بين الاستهلاك بالأكل وبين الاستهلاك بالبيع أو الهبة ؟ قال علي : ويكفي من هذا أن الموصى له لا يخلو من أن يكون ملك الغنم التي أوصى له بها مدة حياته ، أو لم يملكها ، ولا سبيل إلى قسم ثالث - : فإن كان ملكها فله أن يبيعها كلها أو ما شاء منها وأن يهبها كذلك ، وأن يأكلها كذلك .

وإن كان لم يملكها لم يحل له أكل شيء منها ، ولا من أصوافها ولا من ألبانها وأولادها ; لأنها مال غيره وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

ولا شك - بنص القرآن - في أن ما يخلفه الميت مما لم يوصى به قطعا فهو ملك للورثة ، وإذ هو ملكهم فلا يحل للموصي حكم في مال الورثة - .

وبالله تعالى التوفيق .

وروينا عن عبد الرزاق عن معمر فيمن أوصى لزيد بثلث ماله ولآخر بنفقته حتى يموت : أنه يوقف للموصى له بالنفقة نصف الثلث .

قال أبو محمد : وهذا خطأ لأنه قد لا يعيش إلا يوما أو أقل ، وقد يعيش عشرات أعوام - فهذا مجهول ، فهو باطل لا يعرف بماذا أوصى له .

وروينا عن سفيان الثوري فيمن أوصى أن يكاتب عبده بألف درهم وقيمته ألف درهم أو أكثر ؟ فلم يوص له بشيء ، فإن أوصى أن يكاتب بأقل من قيمته فإن ما نقص من قيمته وصية له .

قال علي : وهذا خطأ والوصية بالمكاتبة جملة باطل ; لأن العبد خارج بموت [ ص: 366 ] الموصي إلى ملك الورثة فوصيته بمكاتبة عبد الورثة باطل ; لأنه مال الورثة .

وقال الأوزاعي فيمن له ثلاثة أولاد وعبد فأوصى بأن يخدم ذلك العبد واحدا من أولاده - سماه وعينه - سنة ثم العبد حر : فإنه يخدم أولاده كلهم سنة ثم هو حر .

قال علي : وهذا خطأ ; لأنه حكم بغير ما أوصى به الموصي ، فلا هو أنفذ وصيته ولا هو أبطلها ، ولا يخلو من أن تكون صحيحة أو فاسدة ، فإن كانت صحيحة فقد أبطل الصحيح ، وإن كانت فاسدة فقد أجاز الفاسد .

فإن قال : جمعت فسادا وصحة فأجزت الصحيح وأبطلت الفاسد ؟ قلنا له : بل أجزت الفاسد - وهو عتقه ملك بنيه وعبدهم - وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } " .

وقال الليث بن سعد بجواز الوصية بكل ما ذكرنا : أنه لا يجوز - وقال فيمن أوصى لإنسان بثلثه ، ولآخر بالنفقة ما عاش : أن الثلث بينهما بنصفين .

قال أبو محمد : وهذا خطأ ; لأنه غير ما أوصى به الموصي .

ولا يجوز أن يحال ما أوصى به الموصي إلى غير ما أوصى به إلا بنص ، ولا نص بما قال الليث .

وقال عثمان البتي فيمن أوصى لزيد بنفقة عشرة دراهم كل شهر ، ولعمرو بمائة درهم كل شهر فإنهما يتحاصان ، ويضرب بمائة للموصى له بمائة ، ويضرب بعشرة للموصى له بعشرة فيعطى حصته ، ويعطى الباقي الذي أوصى له بالمائة ، فإذا كان في الشهر الثاني ضرب الموصى له بعشرة بعشرين ، وضرب صاحب المائة بمائة ، وحسب صاحب العشرة بعشرة ، وحسب له ما أخذ في الشهر الأول ، وكذلك يقسم بينهما كل شهر .

قال أبو محمد : وهذا كلام لا يعقل ولا يدرى منبعثه .

وقال أبو حنيفة فيمن أوصى بخدمة عبده فلانا سنة ثم يعتق ولا مال له غيره : فإنه يخدم الموصى له يوما والورثة يومين ، فإذا مضت له ثلاث سنين هكذا أعتق .

قال أبو محمد : نرى أنه في قول أنه يسعى في ثلثي قيمته للورثة . [ ص: 367 ] قال علي : وقوله هذا فاسد .

قال : ومن أوصى لآخر بسكنى داره ولا مال له غيرها سكن الموصى له بثلث الدار وسكن الورثة بثلثيها ، وليس له أن يؤاجرها ، ولا أن يؤاجر العبد الموصى له بخدمته ، ولا أن يخرجه عن ذلك البلد إلا أن يكون الموصى له في بلد آخر ، فله أن يخرجه إلى بلده .

قال علي : وهذا في غاية الفساد ; لأنه خالف عهد الميت في الوصية بسكنى جميع الدار ، فلم يجعل له إلا سكنى ثلثها فقط ، وقيمة سكنى ثلث الدار أقل من ثلث الميت بلا شك ; لأن جميع الدار مال تخلفه ، فإذ هذه الوصية عنده جائزة ، فهلا أنفذ له جميعها لأنها أقل من الثلث بلا شك .

وأيضا : فلا فرق بين كون الموصى له في بلد آخر وبين رحيله إلى بلد آخر ، فإن كان العبد للموصي فللموصى له التصرف فيما أوصى له به حيث شاء ، وإن كان ليس هو للموصي فالوصية بخدمته باطل .

قال أبو حنيفة : ومن أوصى بغلة بستانه لزيد وفيه غلة ظاهرة إذ مات الموصي فليس للموصى له إلا تلك الغلة بعينها فقط ، فلو لم يكن فيها غلة إذ مات فله ثلثها أبدا ما عاش .

قال أبو محمد : وهذا باطل أيضا ، وفرق بلا برهان ، وهلا جعلوا له أول غلة تظهر بعد موت الموصي فقط ، ثم لا شيء له في المستأنف كما قالوا في الغلة الظاهرة .

فإن قالوا : حملنا ذلك على العموم ؟ قلنا لهم : وهلا حملتم وصيته أيضا على العموم إذا مات وفي البستان غلة ولو أن عاكسا عكس قولهم فأعطاه غلة البستان أبدا إذا مات وفيه غلة ظاهرة ، ولم يعطه إذا مات ولا غلة في البستان إلا أول غلة تظهر : ما كان بين الحكمين بالباطل فرق .

قال أبو حنيفة : وإنما تجوز الوصية بسكنى الدار وخدمة العبد ، إذا أوصى به لإنسان بعينه - قال : فلو أوصى بذلك للفقراء ، والمساكين : لم يجز ذلك .

قال علي : ليس في المصيبة أكثر من هذا أن يكون إن أوصى لكافر أو لفاسق : جاز ، فإن أوصى لفقراء المسلمين لم يجز - أف لهذا القول [ ص: 368 ] قال أبو حنيفة : ولو أوصى لزيد بالنفقة ما عاش ؟ فإن جوز الورثة ذلك وقف له جميع المال كله ، وتحاص هو وسائر الموصى لهم ، إلا أن يعين الموصى لهم أن ينفق عليه من الثلث ، فيوقف له الثلث خاصة ، ويحاص أيضا الموصى لهم .

وقال أبو يوسف : يجعل له عمر مائة سنة ، ثم يوقف له الثلث خاصة ما ينفق عليه فيما بقي له من مائة سنة ، فإن عاش أكثر أعطي النفقة أيضا حتى يفرغ الثلث .

قال أبو محمد : وهذه وساوس لا تعقل ، والأسعار تختلف اختلافا متباينا ، فكيف يقدر على هذا الجنون .

وأجاز أبو حنيفة أن يوصي لإنسان بخدمة عبد ما عاش ، ولآخر برقبة ذلك العبد ، ورأى النفقة ، والكسوة على الذي أوصى له بالخدمة ، ورأى ما وهب للعبد للذي له الرقبة .

قال علي : وهذا باطل أيضا ، ومن أين أستحل أن يلزم الموصى له بالخدمة نفقة غير عبده وكسوته ؟ إن هذا لعجب .

وقال محمد بن الحسين : من أوصى بعتق عبده بعد موته بشهر فمات ومضى شهر لم يعتق إلا بتجديد عتق لأنه لو جنى جناية قبل تمام الشهر كان للورثة أن يسلموه بجنايته .

قال علي : فإذ ملكه للورثة كما قال ، فكيف يعتق عبدهم بغير رضاهم ، وهذا كله لا خفاء بفساده .

وقال مالك : من أوصى بخدمة عبده ، أو بغلة بستانه ، أو بسكنى داره ، أو بنفقته على إنسان فكل ذلك جائز ، فلو أوصى بخدمة عبده ما عاش لزيد ، وبرقبته لعمرو فهو جائز .

قال : فلو أن الموصى له بخدمة العبد وهب لذلك العبد ما أوصى له به من خدمته ، أو باعها منه : عتق العبد ساعتئذ ، ولا مدخل للورثة في ذلك .

قال علي : وهذا خلاف أقواله المعهودة من أن الوصية إذا لم يقبلها الموصى له بها رجعت ميراثا - وهذا تناقض من قوله . [ ص: 369 ] وهو أيضا - خلاف ما أوصى به الموصي .

وأطرف شيء قوله فإن أعتقه الورثة لم ينفذ عتقهم ، فأبطل عتق مالكيه بإقراره ، وأجاز عتقه بخلاف وصية الموصي بعتقه .

وقال مالك : للموصى له بخدمة العبد أو بسكنى الدار : أن يؤاجرها ، قال : إلا أن يوصي بأن يخدم ابنه ما عاش ، ثم هو حر - فهذا لا يؤاجر ; لأنه قصد به قصد الحضانة ؟ قال أبو محمد : وهذا تناقض وخلاف ما أوصى به الموصي من السكنى والخدمة .

قال مالك : ولو أوصى له بخدمة عبده سنة وليس للموصي مال غيره ، فالورثة بالخيار بين أن يسلموا له خدمة العبد سنة ثم يرجع إليهم ، وبين أن يعطوه ثلث جميع ما تركه الموصي ملكا ؟ قال علي : وهذا خلاف الوصية جهارا .

وقال مالك فيمن أوصي له بالنفقة ما عاش : حسب له عمر سبعين سنة ، ووقف له ما ينفق عليه فيما بقي من عمره إلى تمام السبعين ، فما فضل رد على سائر الوصايا أو على الورثة .

قال علي : وهذا خطأ فاحش - : أول ذلك تخصيصه سبعين سنة .

ثم قول : يوقف له ما ينفق عليه ما بقي من عمره إلى تمام سبعين ، والأسعار تختلف اختلافا فاحشا .

ثم النفقة أيضا - شيء غير محدود ; لأنه يدخل في النفقة ما يستغنى عنه كالتوابل واللحم وغير ذلك .

وكل هذه الأقوال فليس شيء منها عن قرآن ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول أحد [ نعلمه ] قبلهم ، ولا قياس ولا معقول ، بل هي مخالفة لكل ذلك .

وقال الشافعي : تجوز الوصية بخدمة العبد ، وبسكنى الدار ، وبغلة البستان والأرض ، وأجاز للموصى له بسكنى الدار أن يؤاجرها - وهذا تبديل للوصية .

وأجاز الوصية بخدمة عبد لزيد وبرقبته لعمرو .

وقال فيمن أوصى لإنسان بخدمة عبده سنة ولا مال للموصي غير ذلك العبد : أنه يجوز من ذلك ما حمل الثلث فقط . [ ص: 370 ] وقال أبو ثور : بجواز كل ذلك ، وأن للورثة بيع العبد ، ويشترط على المشتري تمام الخدمة للموصي بها ، وأن يخرجه الموصى له بخدمته إلى أي بلد شاء .

قال أبو محمد : فاتفق من ذكرنا على جواز الوصية بخدمة العبد ، وغلة البستان ، وسكنى الدار - ووافقهم على ذلك سوار بن عبد الله ، وعبيد الله بن الحسن العنبريان ، وإسحاق بن راهويه .

وقال ابن أبي ليلى ، وأبو سليمان ، وجميع أصحابنا : لا يجوز شيء من ذلك

قال علي : احتج من أجاز ذلك بأنه كما تجوز الإجارة في منافع كل ذلك فكذلك تجوز الوصية بمنافع كل ذلك - وما نعلم لهم شيئا غير هذا ، وهو قياس والقياس باطل ، ثم هو أيضا حجة عليهم لا لهم ; لأن الإجارة إنما تجوز فيما ملك المؤاجر رقبته ، لا فيما لا ملك له فيه ، والدار ، والعبد ، والبستان متنقلة بموت المالك لها إلى ما أوصى فيه بكل ذلك ، أو إلى ملك الورثة ، لا بد من أحدهما .

وهذا بإقرارهم منتقل إلى ملك الورثة ووصية المرء في ملك غيره باطل ، لا تحل كما أن إجارته لملك غيره لا تحل ، والإجارة إنما هي منافع حدثت في ملكه ، والوصية هي في منافع تحدث في ملك غير الموصي ، وهذا حرام .

قال أبو محمد : قال الله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } فلم يجعل عز وجل للورثة إلا ما فضل عن الدين والوصية - .

فصح بنص القرآن أن ما أوصى به الموصي فلم يقع قط عليه ملك الورثة لكن خرج بموت الموصي إلى الوصية بنص القرآن .

وصح بنص القرآن أن ما ملكه الورثة فهو خارج عن الوصية ، فثبت أنه لا وصية فيه للموصي أصلا .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

فصح يقينا أن ما ملكه الورثة فقط سقط عنه ملك الميت ، وإذ لا ملك له عليه فوصاياه فيه بعتق أو بنفقة أو بغير ذلك باطل ، مردود مفسوخ - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية