728 - مسألة :
ولا يجزئ صيام أصلا - رمضان كان أو غيره - إلا بنية مجددة في كل ليلة لصوم اليوم المقبل ، فمن تعمد ترك النية بطل صومه ؟ برهان ذلك - : قول الله تعالى : {
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } فصح أنهم لم يؤمروا بشيء في الدين إلا بعبادة الله تعالى والإخلاص له فيها بأنها دينه الذي أمر به .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12419إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } .
[ ص: 286 ] فصح أنه لا عمل إلا بنية له ، وأنه ليس لأحد إلا ما نوى . فصح أن من نوى الصوم فله صوم ، ومن لم ينوه فليس له صوم .
ومن طريق النظر : أن الصوم إمساك عن الأكل والشرب ; وتعمد القيء ، وعن الجماع ، وعن المعاصي ، فكل من أمسك عن هذه الوجوه - لو أجزأه الصوم بلا نية للصوم - لكان في كل وقت صائما ، وهذا ما لا يقول أحد .
ومن طريق الإجماع : أنه قد صح الإجماع على أن من صام ونواه من الليل فقد أدى ما عليه ، ولا نص ولا إجماع على أن الصوم يجزئ من لم ينوه من الليل . واختلف الناس في هذا - : فقال
nindex.php?page=showalam&ids=15922زفر بن الهذيل : من
صام رمضان ، وهو لا ينوي صوما أصلا ، بل نوى أنه مفطر في كل يوم منه ، إلا أنه لم يأكل ولم يشرب ، ولا جامع - : فإنه صائم ويجزئه ، ولا بد له في صوم التطوع من نية ؟ وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة : النية فرض للصوم في كل يوم من رمضان ، أو التطوع ، أو النذر إلا أنه يجزئه أن يحدثها في النهار ، ما لم تزل الشمس ، وما لم يكن أكل قبل ذلك ، ولا شرب ، ولا جامع ، فإن لم يحدثها - لا من الليل ولا من النهار ما لم تزل الشمس - لم ينتفع بإحداث النية بعد زوال الشمس ، ولا صوم له ، وعليه قضاء ذلك اليوم ، وأما قضاء رمضان والكفارات فلا بد فيها من النية من الليل لكل يوم ، وإلا فلا صوم له ، ولا يجزئه أن يحدث النية في ذلك بعد طلوع الفجر . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : لا بد من نية في الصوم وأما في رمضان فتجزئه نيته لصومه كله من أول ليلة منه ، ثم ليس عليه أن يجدد نية كل ليلة ، إلا أن يمرض فيفطر ، أو يسافر فيفطر ، فلا بد له من نية - حينئذ - مجددة قال : وأما التطوع فلا بد له من نية لكل ليلة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=15858وداود : مثل قولنا ، إلا أن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رأى في التطوع خاصة إحداث النية له ما لم تزل الشمس ، وما لم يكن أكل قبل ذلك ، أو شرب ، أو جامع - : وروينا من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك عن
nindex.php?page=showalam&ids=17191نافع عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر قال : لا يصوم إلا من أجمع الصيام
[ ص: 287 ] قبل الفجر .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك عن
الزهري : أن
عائشة أم المؤمنين قالت : لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر ( ) - : ومن طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16472ابن وهب عن
nindex.php?page=showalam&ids=17423يونس بن يزيد عن
ابن شهاب : أخبرني
حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قالت
حفصة أم المؤمنين : لا صيام لمن لم يجمع قبل الفجر ؟ فهؤلاء ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم منهم مخالف أصلا ، والحنفيون ، والمالكيون : يعظمون مثل هذا إذا خالف أهواءهم وقد خالفوهم هاهنا ، ما نعلم أحدا قبل
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك قال بقولهما في هذه المسألة ; هم يشنعون أيضا بمثل هذا على من قاله متبعا للقرآن والسنة الصحيحة ، وهم هاهنا خالفوا القرآن والسنن الثابتة برأي فاسد لم يحفظ عن أحد قبلهم ؟ قال
nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد : برهان صحة قولنا ما حدثناه
عبد الله بن ربيع ثنا
محمد بن معاوية ثنا
أحمد بن شعيب أنا
nindex.php?page=showalam&ids=12224أحمد بن الأزهر ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16360عبد الرزاق عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
ابن شهاب عن
nindex.php?page=showalam&ids=15959سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن
nindex.php?page=showalam&ids=41حفصة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=37315من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له } .
[ ص: 288 ] وهذا إسناد صحيح ، ولا يضر إسناد
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج له أن أوقفه
nindex.php?page=showalam&ids=17124معمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك ،
وعبيد الله ،
nindex.php?page=showalam&ids=17419ويونس ،
nindex.php?page=showalam&ids=16008وابن عيينة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13036فابن جريج لا يتأخر عن أحد من هؤلاء في الثقة والحفظ ،
والزهري واسع الرواية ، فمرة يرويه عن
سالم عن أبيه ، ومرة عن
حمزة عن أبيه ، وكلاهما ثقة ،
nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر كذلك ، مرة رواه مسندا ، ومرة روى أن
حفصة أفتت به ، ومرة أفتى هو به ، وكل هذا قوة للخبر .
والعجب أن المعترضين بهذا من مذهبهم : أن المرسل كالمسند . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد : وهذا عموم لا يحل تخصيصه ، ولا تبديله ، ولا الزيادة فيه ، ولا النقص منه ، إلا بنص آخر صحيح ؟ فإن قيل : فهلا أوجبتم النية متصلة بتبين الفجر ، كما تقولون : في الوضوء والصلاة ، والزكاة ، والحج ، وسائر الفرائض . ؟ قلنا : لوجهين اثنين أحدهما هذا النص الوارد الذي لا يحل خلافه ولسنا والحمد لله ممن يضرب كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه ببعض فيؤمن ببعضه ، ويكفر ببعضه ، ولا ممن يعارض أوامر الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بنظره الفاسد ; بل نأخذ جميع السنن كما وردت ; ونسمع ونطيع لجميعها كما أتت ؟ والثاني : قول الله تعالى : {
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولم يكلفنا - عز وجل - السهر مراعاة لتبين الفجر ، وإنما ألزمنا النية من الليل ; ثم نحن عليها إلى أن يتبين الفجر وإن نمنا وإن غفلنا ، ما لم نتعمد إبطالها .
فإن قيل : فأنتم تجيزون لمن
نسي النية من الليل إحداثها في اليوم الثاني ؟ .
[ ص: 289 ] قلنا : نعم ، بنص صحيح ورد في ذلك ولو لا ذلك ما فعلناه ؟ قال
nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد : وما نعلم
nindex.php?page=showalam&ids=15922لزفر حجة إلا أنه قال : رمضان موضع للصيام وليس . موضعا للفطر أصلا ، فلا معنى لنية الصوم فيه ، إذ لا بد منه ؟
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13064علي : وهذه حجة عليه ، مبطلة لقوله ; لأنه لما كان موضعا للصوم لا للفطر أصلا وجب أن ينوي ما افترض الله تعالى عليه من العبادة بذلك الصوم ، وأن يخلص النية لله تعالى فيها ، ولا يخرجها مخرج الهزل واللعب .
ووجه آخر : وهو أن شهر رمضان أمرنا بأن نجعله للصوم ، ونهينا فيه عن الفطر ، إلا حيث جاءنا النص بالفطر فيه ، فهو وقت للطاعة ممن أطاع بأداء ما أمر به ووقت - والله - للمعصية العظيمة فمن عصى الله تعالى فيه وخالف أمره عز وجل فلم يصمه كما أمر ; فإذ هو كذلك - يقينا بالحس والمشاهدة - فلا بد ضرورة من قصد إلى الطاعة المفروضة ، وترك المعصية المحرمة ، وهذا لا يكون إلا بنية لذلك . وهذا في غاية البيان والحمد لله .
ووجه ثالث : وهو أنه يلزم على هذا القول أن من لم يبق له من وقت صلاة الصبح إلا مقدار ركعتين فصلى ركعتين تطوعا أو عابثا - : أن يجزئه ذلك من صلاة الصبح ; لأن ذلك الوقت وقت لها ، لا لغيرها أصلا ، وهذا هو القياس : إن كان القياس حقا . وما علمنا
nindex.php?page=showalam&ids=11990لأبي حنيفة حجة أصلا في تلك التقاسيم الفاسدة السخيفة ، إلا أن بعض من ابتلاه بتقليده موه في ذلك بحديث نذكره في المسألة التالية ، لأنه موضعه ، وليس في هذا الخبر متعلق
nindex.php?page=showalam&ids=11990لأبي حنيفة أصلا ، بل قد نقض أصله ، فأوجب فيه نية ; بخلاف قوله في الطهارة ، ثم أوجبها في النهار بلا دليل ، وما نعرف
nindex.php?page=showalam&ids=16867لمالك حجة أصلا ; إلا أنهم قالوا : رمضان كصلاة واحدة ؟ قال
nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد : وهذه مكابرة بالباطل ; لأن الصلاة الواحدة لا يحول بين أعمالها - بعمد - ما ليس منها أصلا ، وصيام رمضان يحول بين كل يومين منه ليل يبطل فيه الصوم جملة ويحل فيه الأكل والشرب والجماع ، فكل يوم له حكم غير حكم اليوم الذي قبله واليوم الذي بعده ; وقد يمرض فيه أو يسافر ، أو تحيض ، فيبطل الصوم ، وكان بالأمس صائما ، ويكون غدا صائما .
[ ص: 290 ] وإنما شهر رمضان كصلوات اليوم والليلة ، يحول بين كل صلاتين ما ليس صلاة ، فلا بد لكل صلاة من نية ، فكذلك لا بد لكل يوم في صومه من نية . وهم أول من أبطل هذا القياس ، فرأوا من
أفطر عامدا في يوم من رمضان أن عليه قضاءه وأن سائر صيامه كسائر أيام الشهر صحيح ، فقد أقروا بأن حكم الشهر كصلاة ليلة واحدة ، ويوم واحد .
وإنما يخرج هذا على قول
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب الذي يرى من أفطر يوما من رمضان عامدا أو أفطره كله - سواء ، وأن عليه في اليوم قضاء شهر ، كما عليه في الشهر كله ، ولا فرق . وهذا مما أخطئوا فيه القياس - لو كان القياس حقا - فلا النص اتبعوا ، ولا الصحابة قلدوا ، ولا قياس صحبوا ، ولا الاحتياط التزموا ، وبالله تعالى التوفيق .