وإذا
كانت الدار لقوم وأحدهم شاهد ، والآخرون غيب ، فأراد الشاهد أن يسكنها إنسانا أو يؤاجرها إياه ففيما بينه وبين الله - تعالى - لا ينبغي له أن يفعل ذلك ; لأنه يكون معيرا أو مؤجرا نصيب شركائه بغير رضاهم ، ولا ولاية له عليهم وكما لا يتصرف في عين ملكهم بغير رضاهم لا يتصرف في منفعة ملكهم أيضا ، ولا يمكنه أن يتصرف في نصيب نفسه بالإسكان والإجارة إلا بعد القسمة ، والقسمة لا تتم بالواحد ، وأما في القضاء ، فإذا لم يكن لهم خصم يخاصمه لم يحل بينه وبين ذلك ; لأن القاضي لفصل الخصومة لا لإنشائها ، وإذا لم يحضر خصم لا يكون له أن يمنع صاحب اليد من التصرف فيما في يده بالإسكان والإجارة ، ولكنه إذا علم حقيقة الحال أفتاه بالكف عن ذلك كما يفتيه به غيره ، وإن أراد أن يسكنها بنفسه ففي القياس يمنع ذلك فيما بينه وبين ربه ; لأنه يصير مستوفيا منفعة نصيب شركائه ، وهو ممنوع من ذلك شرعا .
( ألا ترى ) لو كانوا حضروا منعوه من ذلك ، فإذا كانوا غيبا لم يبطل حقهم بغيبتهم ، فكان هو ممنوعا من ذلك شرعا ، وفي الاستحسان يرخص له في ذلك ; لأنهم قد رضوا جميع الدار في يده وليس في سكناه إلا إثبات اليد إليه .
( ألا ترى ) أن من لا يضمن العقار باليد لا يضمنه بالسكنى أيضا ; لأن في سكناه منفعة لشركائه ; لأن الدار إذا لم يكن فيها ساكن فإنها تخرب ، وإذا سكنها إنسان كانت عامرة ففي هذا التصرف منفعة لشركائه بخلاف ما تقدم ، فإنه بالإسكان يثبت يد غيره على الدار ، ولم يرض به شركاؤه فربما لا يتمكنون إذا حضروا من إرجاعه واسترداد أنصبائهم ، وإن أجرها الحاضر ، وأخذ الآخر حصة نصيبه من ذلك تطيب له ، وحصة نصيب شركائه لا تطيب ; لأنه بمنزلة الغاصب يؤاجر في حصتهم فلا يطيب له الأجر ولكنه يتصدق به ; لأن ملكه حصل له بسبب خبيث ، ويعطي ذلك شركاءه إن قدر عليهم ; لأن تمكن الخبث كان لمراعاة حقهم فيرتفع بالرد عليهم
[ ص: 196 ] ، وقد بينا نظيره في كتاب الغصب .
وإذا باع الرجل الأرض ليزرعها كتب إنك أطعمتني أرض كذا لأزرع فيها ما بدا لي من غلة الشتاء والصيف وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبو يوسف رحمه الله إذا كتب عارية فهو أحب إلي من أن يكتب أطعمتني ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد رحمه الله ; لأنه بالإعارة يجعل له منفعة الأرض بغير عوض ، والعارية اسم موضوع لتمليك المنفعة بغير عوض كما أن استعمال هذا اللفظ أولى من استعمال غيره مما لم يوضع لتمليك المنفعة في الأصل ، وهو نظير إعارة الدار وغيرها من الأعيان
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة يقول : لو كتب أعرتني كان المفهوم منه الانتفاع بها من حيث السكنى ، وإذا كتب أطعمتني كان المفهوم التمكن من الزراعة ; لأن الأرض لا يطعم عينها ، وإنما يطعم ما يكون منها ، وذلك لا يحصل إلا بالزراعة ، وإذا كانت الإعارة للسكنى فلفظ الإعارة أقرب في بيان ما هو المقصود ، وإذا كانت الإعارة للزراعة فلفظ الطعمة أقرب إلى بيان ما هو المقصود ، فينبغي أن يستعمل في كل فصل ما هو دليل على المقصود ، وهذه مسألة الجامع الصغير قال : وخراجها على ربها ; لأن الخراج مؤنة الأرض النامية ، وجوابه يعتمد التمكن من الانتفاع بالأرض وبالإعارة لا يزول تمكنه من الانتفاع بها ، وإنما ينتفع بها المستعير بتسليط المعير فهو كانتفاع المعير بها بنفسه ، فإن اشترط على المستعير أداء الخراج ; فبهذا الشرط يخرجه من الطعمة ، وتكون إجارة فاسدة ; لأنه لا يعرف خراجها ، ومعنى هذا : أن
الخراج على رب الأرض ، فإذا شرطه على المستعير فكأنه شرط لنفسه عوضا عن المنفعة فيصير العقد به إجارة ، وفسادها لجهالة الخراج قبل هذا في الأراضي الصلحية التي يكون خراج الحماحم والأراضي جملة ثم يقسم على الحماحم والأراضي فعند قلة الحماحم تزداد حصة الأرض ، وعند كثرة الحماحم تنتقص فأما خراج الوظيفة يكون معلوم المقدار ، وقيل : بل المراد الجهالة في روادف الخراج فإن ولاة الجور ألحقوا بالخراج روادف ، وذلك مجهول يزداد ، وينتقص ولإفساد هذا العقد علة أخرى ، وهي أن الخراج في ذمة رب الأرض ، فكأنه شرط على المستأجر أن يتحمل عنه دينا في ذمته وذلك مفسد للإجارة ، وإذا أوصى الرجل بغلة أرضه ، فالخراج على الموصى له بالغلة ; لأن وجوبه باعتبار التمكن من الانتفاع بالأرض ، والموصى له هو المتمكن من الانتفاع بالأرض دون الوارث ، وبه فارق الإعارة ولأن للخراج تعلقا بالغلة .
( ألا ترى ) أنه إن منع الخراج لم تطب له الغلة وللإمام أن يحول بينه وبين الغلة ليؤدي الخراج والموصى له هو المختص بالغلة فيكون الخراج عليه ، ولا وجه لإيجاب الخراج على الورثة ; لأنهم لو زرعوا الأرض
[ ص: 197 ] واصطلم الزرع آفة لم يلزمهم الخراج ، فإذا لم يتمكنوا من زراعتها أولى لا يلزمه الخراج .