ثم حول الكلام إلى فصل آخر حاصله دار على فصل ، وهو أن
مساعي أهل التكليف ثلاثة أنواع : نوع منها للمرء كالعبادات ، ونوع منها عليه كالمعاصي ، ونوع منها بينهما لا له ولا عليه ، وذلك المباحات في الأقوال والأفعال كقولك : أكلت أو شربت أو قمت أو قعدت وما أشبه ذلك هذا مذهب أهل الفقه رحمهم الله وقالت
الكرامية مساعي أهل التكليف نوعان لهم وعليهم وليس شيء من مساعيهم في حد الإهمال لقوله تعالى {
فماذا بعد الحق إلا الضلال } ، فقد قسم الأشياء قسمين لا فاصل بينهما إما الحق ، وهو ما يكون للمرء أو الضلال ، وهو ما على المرء وقال الله تعالى {
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } وما للتعميم فتبين بهذا أن جميع ما يكتسبه المرء له أو عليه وقال الله تعالى {
من عمل صالحا فلنفسه } الآية فتبين بهذا أن عمله لا ينفك عن أحد هذين إما صالح أو سيئ ، وفي كتاب الله تعالى بيان أن جميع ما يتلفظ به المرء مكتوب قال الله تعالى {
ما يلفظ من قول } الآية .
وفيه بيان أن جميع ما يفعله المرء مكتوب قال الله تعالى {
وكل شيء فعلوه في الزبر } ، وفيه دليل أنه يحضر جميع ما عمله في ميزانه عند الحساب قال الله تعالى {
ووجدوا ما عملوا حاضرا } وما للتعميم فدل أنه ليس شيء من ذلك هملا والمعنى فيه من وجهين : أحدهما : أن مواثيق الله على عباده لازمة له في كل حال يعني من قوله تعالى {
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } وقال عز وجل {
وما خلقت الجن والإنس } الآية فإما أن يكون هو موقنا بهذا العهد والميثاق فيكون ذلك له أو تاركا فيكون عليه إذ لا تصور لشيء سوى هذا والدليل عليه أن المباح الذي تصورونه إما أن يكون من جنس ماله بأن يكون مقربا له مما يحل ويكون هو مأمورا به أو مبعدا له مما لا يحل فيكون ذلك له أو يكون مقربا له مما لا يحل أو مبعدا له مما يحل ويؤمر به فيكون ذلك عليه فعرفنا أن جميع مساعيه غير خارجة من أن تكون له أو عليه وحجتنا في ذلك أن
[ ص: 280 ] الصحابة رضوان الله عليهم ، ومن بعدهم من التابعين والعلماء رحمهم الله اتفقوا على أن من أفعال العباد ما هو مأمور به أو مندوب إليه ، وذلك عبادة لهم ، ومنه ما هو منهي عنه ، وذلك عليهم ، ومنه ما هو مباح وما كان مباحا ، فهو غير موصوف بأنه مأمور به أو مندوب إليه أو منهي عنه فعرفنا أن هنا قسما ثالثا ثابتا بطريق الإجماع وليس ذلك للمرء ، ولا على المرء وما كان هذا بين القسمين الآخرين إلا لحكمة وهي أن يكون مهملا لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه ; لأن ما يكون له ، فهو مثاب عليه قال الله تعالى {
ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون } الآية وقال الله تعالى {
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } وما يكون عليه ، فهو معاقب على ذلك قال الله تعالى {
وإن أسأتم فلها } أي فعليها وإذا كان في أفعاله وأقواله ما لا يثاب عليه ولا يعاقب عرفنا أنه مهمل والدليل عليه أن الله تعالى قال {
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } .
فالتنصيص على نفي المؤاخذة في يمين اللغو يكون تنصيصا على أنه لا يثاب عليه ، وإذا ثبت بالنص أنه لا يثاب عليه ولا يعاقب عرفنا أنه مهمل وقال الله تعالى {
ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } ، ولا إشكال أنه لا يثاب على ما أخطأ به ، وقد انتفت المؤاخذة بالنص فعرفنا أنه مهمل وقال صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=81821رفع عن أمتي ثلاث الخطأ والنسيان } الحديث معناه أن الإثم مرفوع عنهم ولا شك أنهم لا يثابون على ذلك ، فإذا ثبت بهذه النصوص أن ما لا ينال به المرء الثواب ، ولا يكون معاقبا عليه ، فإنه يكون مهملا لا يوصف بأنه يكون للمرء أو عليه ; لأن ما له خاص بما لا ينتفع به في الآخرة وما عليه خاص فيما يضره تجاه الآخرة ، وفي أفعاله وأقواله ما لا ينفعه ، ولا يضره في الآخرة فكان ذلك مهملا
ثم اختلف الفقهاء رحمهم الله أن
ما يكون مهملا من الأفعال والأقوال هل يكون مكتوبا على العبد أم لا قال بعضهم : إنه لا يكتب عليه ; لأن الكتابة لا تكون من غير فائدة والفائدة منفعته بذلك في الآخرة أو المعاقبة معه على ذلك فما يكون خارجا عن هذين الوجهين فلا فائدة في كتابته عليه وأكثر الفقهاء رحمهم الله على أن ذلك كله مكتوب عليه قال الله تعالى {
ونكتب ما قدموا وآثارهم } الآية إلا أنهم قالوا بعد ما يكتب جميع ذلك عليه يبقى في ديوانه ما فيه جزاء خير أو شر ويمحى من ديوانه ما هو مهمل وبيانه في قوله تعالى {
إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } ، وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {
إذا صعد الملكان بكتاب العبد فإن كان أوله وآخره حسنة يمحى ما بين ذلك من السيئات ، وإن لم يكن ذلك في أوله وآخره يبقى جميع ذلك عليه } ، والذين قالوا يمحى المهمل من الكتاب
[ ص: 281 ] اختلفوا فيه قال بعضهم : إنما يمحى ذلك في الأثانين والأخمسة ، وهو الذي وقع عند الناس أنه تعرض الأعمال في هذين اليومين أي يمحى من الديوان فيهما ما هو مهمل ليس فيه جزاء وأكثرهم على أنه إنما يمحى ذلك يوم القيامة والأصل فيه حديث
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها ، وقد ذكره
محمد رحمه الله في الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {
nindex.php?page=hadith&LINKID=81823الدواوين عند الله ثلاثة ديوان لا يعبأ به ، وهو ما ليس فيه جزاء خير أو شر وديوان مظالم العباد فلا بد فيه من الإنصاف والانتصاف ، والديوان الثالث ما فيه جزاء من خير أو شر } ، وهذا حديث صحيح مقبول عند أهل السنة والجماعة رحمهم الله ، ولكنهم اختلفوا في الديوان الذي لا يعبأ به قيل : هو المهمل الذي قلنا أنه ليس فيه جزاء خير ولا شر ، وقيل هو ما بين العبد وبين ربه مما ليس فيه حق العباد ، فإن الله تعالى عفو كريم قال الله تعالى {
ما يفعل الله بعذابكم } الآية وقيل بل هو الصغائر ، فإنها مغفورة لمن اجتنب الكبائر قال الله تعالى {
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الآية ، فهو الديوان الذي لا يعبأ به وقيل المراد بأعمال الكبائر ما هو في صورة الطاعة ، فإنه لا يعبأ به إذا لم يؤمنوا أي لا ينفعهم ذلك لا الشرك غير مغفور لهم قال الله تعالى {
إن الله لا يغفر أن يشرك به } ولا قيمة لأعمالهم مع الشرك قال الله تعالى {
وقدمنا إلى ما عملوا } الآية والأظهر هو القول الأول إن الذي لا يعبأ به .
القسم الثالث الذي بينا أنه مباح ليس للمرء ، ولا عليه هذا الذي لا يعبأ به ، فإنه فسر ذلك بقوله ، وهو ما ليس فيه جزاء خير ، ولا شر وذكر في الكتاب عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {
يمحو الله ما يشاء ويثبت } أن المراد محو بعض الأسماء من ديوان الأشقياء والإثبات في ديوان السعداء ، ومحو بعض الأسماء من ديوان السعداء والإثبات في ديوان الأشقياء وأهل التفسير رحمهم الله إنما يروون هذا عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله عنه ، كما روي عن
وائل رضي الله عنه أن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول في دعائه : اللهم إن كنت كتبت أسماءنا في ديوان الأشقياء فامحها من ديوان الأشقياء وأثبتها في ديوان السعداء ، فإنك قلت في كتابك وقولك الحق {
يمحو الله ما يشاء ويثبت } الآية فأما
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما فالرواية الظاهرة عنه المحو والإثبات في كل شيء إلا في السعادة والشقاوة والحياة والموت ، ومن الفقهاء رحمهم الله من أخذ بالرواية الأولى وقال إنا نرى الكافر يسلم والمسلم يرتد والصحيح يمرض والمريض يبرأ ، وكذا نقول يجوز أن يشقى السعيد ويسعد الشقي من غير أن يتغير علم الله في كل أحد ولله الأمر من قبل ، ومن بعد يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وعلى ذلك حملوا
[ ص: 282 ] قوله تعالى {
فمنهم شقي وسعيد } وأكثرهم على أن الصحيح الرواية الثانية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما ، فإنه أقرب إلى موافقة الحديث المشهور {
nindex.php?page=hadith&LINKID=59674السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه } وتأويل قوله تعالى {
يمحو الله ما يشاء ويثبت } محوه لا يعبأ به من ديوان العبد مما ليس فيه جزاء خير ، ولا شر وإثبات ما فيه الخير على ما بينا من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها {
nindex.php?page=hadith&LINKID=81824الدواوين عند الله ثلاثة } ولأجله أورد
محمد رضي الله عنه هذا الحديث على أثر ذلك الحديث وقيل المراد محو المعرفة من قلب البعض وإثباتها في قلب البعض فيكون هذا نظير قوله تعالى {
يضل من يشاء ويهدي من يشاء } أو المراد المحو والإثبات في المقسوم لكل عبد من الرزق والسلامة والبلاء والمرض وما أشبه ذلك ثم روى حديث {
الصديق رضي الله عنه حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أكلة أكلتها معك في بيت nindex.php?page=showalam&ids=2737أبي الهيثم بن التيهان } ، وقد روينا الحديث بتمامه زاد في آخر الحديث {
فأما المؤمن فشكره إذا وضع الطعام بين يديه أن يقول بسم الله ، وإذا فرغ يقول الحمد لله } وهذه الزيادة لم يذكرها أهل الحديث في كتبهم
ومحمد رضي الله عنه موثوق به فيما يروي ويحتمل أن يكون هذا من كلام
محمد رضي الله عنه ذكره بعد رواية الحديث .
وقد روي في معنى هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال {
إذا وضع الطعام بين يدي المؤمن فقال بسم الله ، وإذا فرغ قال الحمد لله تحاتت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر كما يتحات ورق الشجر } وقال صلى الله عليه وسلم {
الحمد لله على كل نعمة } وقال صلى الله عليه وسلم {
لو جعلت الدنيا كلها لقمة فابتلعها مؤمن فقال الحمد لله كان ما أتى به خيرا مما أوتي } ، وهو كذلك ، فإن الله تعالى وصف الدنيا بالقلة والحقارة قال الله تعالى {
قل متاع الدنيا قليل } وذكر الله تعالى أعلى وأطيب ، وفي قوله الحمد لله ذكر الله تعالى بطريق التعظيم والشكر فيكون خيرا من جميع الدنيا