صفحة جزء
( قال ) : ويجوز للواحد أن ينفرد بالعقد عند الشهود على الاثنين إذا كان وليا لهما أو وكيلا عنهما ، وعلى قول زفر رحمه الله تعالى إن كان وليهما جاز وإن كان وكيلا لا يجوز أما زفر رحمه الله تعالى يقول : النكاح عقد معاوضة فلا يباشره الواحد من الجانبين كعقد البيع ، وهو قياس يوافقه الأثر ، وهو ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح خاطب وولي وشاهدا عدل } والشافعي رحمه الله تعالى بنحوه يستدل في الوكيل من الجانبين أنه لا يتم العقد بعبارته ; لأنه لا ضرورة في توكيل الواحد من الجانبين بخلاف ما إذا كان وليا من الجانبين ; لأن في تنفيذ العقد بعبارته ضرورة [ ص: 18 ] ولأن أكثر ما في الباب أن يأمر غيره من أحد الجانبين فيكون مأموره قائما مقامه ، وهو الولي من الجانبين شرعا فيملك مباشرة العقد ، وهو نظير ما قلتم في الأب إذا باع مال ولده من نفسه بمثل قيمته يجوز ، ولا يجوز بيعه من غيره ، ووجه قول علمائنا قوله تعالى { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } أي في نكاح اليتامى فهو دليل على أن للولي أن يزوج وليته من نفسه ، وكذا قوله تعالى { وترغبون أن تنكحوهن } دليل على أن للولي أن يزوج وليته من نفسه ، وفي الحديث أن شرط علي رضي الله تعالى عنه أتوه بشيخ مع جارية فسأله عن قصتها فقال : إنها ابنة عمي ، وإني خشيت أنها إذا بلغت ترغب عني فتزوجتها فقال : خذ بيد امرأتك ، والمعنى فيه أن العاقد في باب النكاح سفير ومعبر ، والواحد كما يصلح أن يكون معبرا عن الواحد يصلح أن يكون معبرا عن اثنين ، ودليل الوصف أنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الزوجين وبه يظهر الفرق بينه وبين البيع فإنه يستغني عن إضافة العقد إلى غيره فكان مباشرا للعقد لا معبرا .

توضيحه : أن حقوق العقد في باب البيع تتعلق بالعاقد فإذا باشر العقد من الجانبين يؤدي إلى تضاد الأحكام ; لأنه يكون مطالبا مطالبا مسلما مستلما مخاصما مخاصما ، وفي باب النكاح لا تتعلق الحقوق بالعاقد فلا يؤدي إلى تضاد الأحكام ، ولهذا قلنا : ببيع الأب مال ولده من نصيبه ; لأنه في جانب الصغير يكون ملزما إياه حقوق العقد بولايته عليه حتى إذا بلغ كانت الخصومة في ذلك إليه دون الأب بخلاف بيعه عن غيره فلا يؤدي إلى تضاد الأحكام توضيحه أن البيع لا يصح إلا بتسمية الثمن فإذا تولاه من الجانبين كان مستزيدا مستنقصا ، وذلك لا يجوز والنكاح يصح من غير تسمية المهر فلا يؤدي إلى هذا المعنى إذا باشره الواحد من الجانبين ، وعلى هذا روى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى في الكتابة أن الواحد لا يباشره من الجانبين ; لأنه لا يصح إلا بتسمية البدل فأما على ظاهر الرواية يجوز ; لأن حقوق العقد في الكتابة لا تتعلق بالعاقد بل هو معتبر كما في النكاح ، ولا حجة لهم في هذا الحديث ; لأن هذا النكاح قد حضره أربعة معنى فإنه إذا اجتمع وصفان في واحد كان بمنزلة المثنى من حيث المعنى ; لاعتبار كل صفة على حدة فإن هذا الواحد إذا كان وليا أو وكيلا من أحد الجانبين دون الآخر وفضوليا من الجانب الآخر أو لم يكن وليا ، ولا وكيلا من الجانبين ، ولكنه فضولي باشر النكاح بمحضر من الشهود فبلغ الزوجين فأجازاه لم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول .

وجاز في قوله الآخر وكذلك لو قال الزوج بين يدي الشهود [ ص: 19 ] اشهدوا أني تزوجت فلانة ولم يخاطب عنها أحدا فبلغها فأجازت أو قالت المرأة : اشهدوا أني قد زوجت نفسي من فلان ولم تخاطب عنه أحدا فبلغه فأجاز فهو على هذا الخلاف ، ولو قبل فضولي من جهة الغائب ينعقد موقوفا بالاتفاق حتى لو أجاز يجوز .

أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول : الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء ، وإذا كان كلام الواحد في باب النكاح عقدا تاما باعتبار الإذن في الابتداء فكذلك باعتبار الإجازة في الانتهاء ، وجعل هذا قياس الطلاق والعتاق بمال فإن كلام الواحد فيه لما كان عقدا تاما عند الإذن كان عقدا موقوفا على إجازة الغائب عند عدم الإذن وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا : النكاح عقد معاوضة محتمل للفسخ فكلام الواحد فيه يكون شطر العقد وشطر العقد لا يتوقف على ما وراء المجلس كما في البيع بخلاف الطلاق والعتاق فإنه لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه أصلا .

وتحقيقه : أن قول الرجل : طلقت فلانة بكذا أو أعتقت عبدي فلانا بكذا يكون تعليقا للطلاق والعتاق بالقبول ; لأن تعليقهما بالشرط صحيح فإذا بلغهما فقبلا وقع ; لوجود الشرط ، وفي النكاح قوله : زوجت فلانة لا يمكن أن يجعل تعليقا ; لأن النكاح لا يحتمل التعليق بالشرط فكان هذا شطر العقد ، ولا يدخل على هذا ما لو قال الزوج بمحضر منها : طلقتك بكذا فقامت عن المجلس قبل القبول فإنه يبطل ذلك ولو كان تعليقا بالشرط لما بطل بقيامها عن المجلس ; لأن من التعليقات ما يقتصر على وجود الشرط في المجلس كقوله لها أنت طالق إن شئت يقتصر على وجود المشيئة في المجلس فهذا مثله ، وهذا بخلاف ما إذا كان مأمورا من الجانبين ; لأن هناك عبارته تنتقل إليهما فيصير قائما مقام عبارتهما فإنما يكون تمام العقد بالمثنى من حيث المعنى ، وهنا لا تنتقل عبارته إلى الغير ; لأنه غير مأمور به فإذا بقي مقصورا عليه كان شطر العقد ، والدليل عليه أنه لو قال لها : تزوجتك ، وهي حاضرة كان هذا شطر العقد حتى لا يتوقف على إجازتها بعد قيامها من ذلك المجلس فكذا إذا قال ذلك ، وهي غائبة يكون هذا شطر العقد ولو كان عقد النكاح بين فضوليين خاطب أحدهما عن الرجل والآخر عن المرأة فبلغهما فأجازا جاز ذلك العقد ; لأنه جرى بين اثنين ولو كانا وكيلين كان كلامهما عقدا تاما فكذلك إذا كانا فضوليين يكون كلامهما عقدا موقوفا

التالي السابق


الخدمات العلمية