وإن
ادعى رجل ولاء رجل فجاء بشاهدين ، فشهد أحدهما أن أباه أعتقه في مرضه ولا وارث له غيره وشهد الآخر أن أباه أعتقه عن دبر موته وهو يملكه فالشهادة باطلة ; لاختلافهما في المشهود به لفظا ومعنى ، فإن التدبير غير العتق المنجز في المرض ، ومثل هذا لو
شهد أحدهما أن أباه قد علق عتقه بدخول الدار ، وقد دخل ، والآخر أنه علق عتقه بكلام فلان وقد فعل أو شهد أحدهما أن أباه كاتبه واستوفى البدل ، والآخر أنه أعتقه بمال فإن الكتابة غير العتق بمال ، ألا ترى أنه يملك الكتابة من لا يملك العتق فكان هذا اختلافا في المشهود به لفظا ومعنى ، بخلاف ما لو اختلفا في الزمان والمكان حيث تقبل شهادتهما ; لأن العتق قول ولا يختلف باختلاف الزمان والمكان إذ القول يعاد ويكرر ، ويكون الثاني هو الأول ، ولو مات رجل فأخذ رجل ماله ، وادعى أنه وارثه لم يؤخذ منه ; لأنه لا منازع له في ذلك ، وخبر المخبر محمول على الصدق في حقه إذا لم يكن هناك من يعارضه ; ولأن المال في يده في الحال وهو يزعم أنه ملكه فالقول قوله في ذلك ، فإن خاصمه فيه إنسان سألته البينة ; لأنه يدعي استحقاق اليد عليه في هذا المال ولا يثبت الاستحقاق إلا ببينة فما لم تقم البينة على سبب استحقاقه لا يؤخذ المال من يد ذي اليد ، فإن
ادعى رجل أنه أعتق الميت وهو يملكه ، وأنه لا وارث له غيره وأقام الذي في يديه المال البينة على مثل ذلك قضيت بالولاء والميراث بينهما نصفين ; لأن المقصود بهذه البينة إثبات السبب وهو الولاء
[ ص: 105 ] وإنما قامت بينة على كل واحد منهما على الميت وقد استوت البينتان في ذلك ، فيقضى بينهما بالولاء ، ثم استحقاق المال يترتب على ذلك ( فإن قيل ) : لا كذلك بل المقصود إثبات استحقاق المال وأحدهما فيها صاحب اليد والآخر خارج فإما أن يجعل هذا كبينة ذي اليد والخارج على الملك المطلق فيقضى للخارج ، أو يجعل كما لو ادعيا تلقي الملك من واحد ، وأقاما البينة فتكون بينة ذي اليد أولى .
( قلنا ) : لا كذلك بل الولاء حق مقصود يستقيم إثباته بالبينة ، وإن لم يكن هناك مال ، وإنما ينظر إلى إقامتهما البينة على الولاء أولا ، وهما في ذلك سواء ثم استحقاق الميراث ينبني على ذلك ، وليس هذا نظير ما لو ادعيا تلقي الملك من واحد بالشراء ; لأن السبب هناك غير مقصود حتى لا يمكن إثباته بدون الحكم ، وهو الملك ; ولأن السبب هناك يتأكد بالقبض ، فذو اليد يثبت شراء متأكدا بالقبض ; فلهذا كانت بينته أولى ، وهنا الولاء متأكد بنفسه ولا تأثير لليد على المال في تأكيد السبب ، فلهذا قضي بينهما .
فإن
أقام مسلم شاهدين مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه ، وأنه مات وهو مسلم لا وارث له غيره ، وأقام ذو اليد الذمي شاهدين مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه ، وأنه مات كافرا لا وارث له غيره ، فللمسلم نصف الميراث ، ونصف الميراث لأقرب الناس إلى الذمي من المسلمين ، فإن لم يكن له منهم قرابة جعلته لبيت المال ; لما بينا أن المقصود إثبات الولاء ، وقد استوت الحجتان في ذلك ، فإن شهود الذمي مسلمون وهو حجة على المسلم كشهود المسلم ، فيثبت الولاء بينهما نصفين ، ثم إحدى البينتين توجب كفره عند الموت ، والأخرى توجب إسلامه عند الموت ، والذي يثبت إسلامه أولى وإذا ثبت أنه مات مسلما فالمسلم يرثه المسلم دون الكافر ، ولكن الإرث بحسب السبب ، وللمسلم نصف ولاية فلا يرث به إلا نصف الميراث ، ونصف الولاء للذمي وهو ليس بأهل أن يرثه ، فيجعل كالميت ، ويكون هذا النصف لأقرب عصبة له من المسلمين ، فإذا لم يوجد ذلك فهو لبيت المال بمنزلة ما لو مات الذمي ولا وارث له فالولاء في هذا مخالف للنسب ، فإن النسب لا يتجزأ بحال فيتكامل السبب في حق كل واحد منهما ، فإذا لم يكن أحدهما ممن يرثه فللآخر جميع المال لتكامل السبب في حقه ، فأما الولاء يحتمل التجزؤ حتى لو أعتق رجلان عبدا كان لكل واحد منهما نصف ولائه ، فلهذا لا يرث المسلم إلا نصف الميراث ، فإن
كان شهود الذمي نصارى لم تجز شهادتهم على المسلم ; لأن إسلام الميت يثبت بشهادة الشهود المسلمين ، والحجة في الولاء تقوم عليه ، وشهادة
النصارى ليست بحجة عليه ; ولأن المسلم أثبت
[ ص: 106 ] دعواه بما هو حجة على خصمه ، والذمي أثبت دعواه بما ليس بحجة على خصمه ، فلا تتحقق المعارضة بينهما ولكن يقضى بولائه للمسلم وبجميع الميراث له ، فإن وقت كل واحدة من البينتين وقتا في العتق ، وهو حي والشهود كلهم مسلمون ، فصاحب الوقت الأول أحق ; لأن صاحب الوقت الأول أثبت عتقه من حين أرخ شهوده فلا تصور للعتق من الآخر بعد ذلك ، ومتى كانت إحدى البينتين طاعنة في الأخرى دافعة لها فالعمل بها أولى .