صفحة جزء
قال : ( امرأة صلت خلف الإمام وقد نوى الإمام إمامة النساء فوقفت في وسط الصف ، فإنها تفسد صلاة من عن يمينها ومن عن يسارها ومن خلفها بحذائها عندنا استحسانا ) وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه لا تفسد صلاة أحد بسبب المحاذاة ; لأن محاذاة المرأة الرجل لا تكون أقوى من محاذاة الكلب أو الخنزير إياه ، وذلك غير مفسد لصلاة الرجل ، ولو فسدت الصلاة بسبب المحاذاة لكان الأولى أن تفسد صلاتها ; لأنها منهية عن الخروج إلى الجماعة والاختلاط بالصفوف ، يدل عليه أن المحاذاة في صلاة الجنازة أو سجدة التلاوة غير مفسد على الرجل صلاته ، فكذلك في سائر الصلوات .

( ولنا ) أنه ترك المكان المختار له في الشرع فتفسد صلاته كما لو أخرها وشرها أولها ، فالمختار للرجال التقدم على النساء ، فإذا وقف بجنبها أو خلفها [ ص: 184 ] فقد ترك المكان المختار له وترك فرضا من فروض الصلاة أيضا ، فإن عليه أن يؤخرها عند أداء الصلاة بالجماعة قال عليه الصلاة والسلام : { أخروهن من حيث أخرهن الله } والمراد من الأمر بتأخيرها لأجل الصلاة فكان من فرائض صلاته ، وهذا لأن حال الصلاة حال المناجاة فلا ينبغي أن يخطر بباله شيء من معاني الشهوة فيه ، ومحاذاة المرأة إياه لا تنفك عن ذلك عادة ، فصار الأمر بتأخيرها من فرائض صلاته ، فإذا ترك تفسد صلاته ، وإنما لا تفسد صلاتها ; لأن الخطاب بالتأخير للرجل وهو يمكنه أن يؤخرها من غير أن يتأخر بأن يتقدم عليها ، ولهذا لم تفسد صلاة الجنازة بالمحاذاة ; لأنها ليست بصلاة مطلقة هي مناجاة بل هي قضاء لحق الميت ، ثم ليس لها في الصلاة على الجنازة مقام لكونها منهية عن الخروج في الجنائز ، ولا تفسد صلاة من هو على يمين من هو على يمينها ، ومن على يسار من هو على يسارها إذ هناك حائل بينها وبينهما بمنزلة الأسطوانة ، أو كان من الثياب ، فإن كان صف تام من النساء وراءهن صفوف من الرجال فسدت صلاة تلك الصفوف كلها استحسانا ، والقياس مثل الأول أنه لا تفسد إلا صلاة صف واحد خلف صفوف النساء ; لأن تحقق المحاذاة في حقهم ولكنه استحسن حديث عمر رضي الله تعالى عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم { من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق أو صف من النساء فلا صلاة له } ولأن الصف من النساء بمنزلة الحائط بين المقتدي وبين الإمام ، ووجود الحائط الكبير الذي ليس عليه فرجة بين المقتدي والإمام يمنع صحة الاقتداء ، فكذلك في الصف من النساء ، فأما المرأتان والثلاث إذا وقفن في الصف فالمروي عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أن المرأتين تفسدان صلاة أربعة نفر : من عن يمينهما ومن عن يسارهما ومن خلفهما بحذائهما ، والثلاث يفسدن صلاة من عن يمينهن ومن عن يسارهن وثلاثة ثلاثة خلفهن إلى آخر الصفوف ، وقال : الثلاث جمع متفق عليه فهو قياس الصف التام ، فأما المثنى فليستا بجمع تام فهما قياس الواحدة لا يفسدان إلا صلاة من خلفهما .

وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى روايتان في إحداهما جعل الثلاث كالاثنين وقال لا يفسدن إلا صلاة خمسة نفر : من عن يمينهن ومن عن يسارهن ومن خلفهن بحذائهن ; لأن الأثر جاء في صف تام والثلاث ليس بصف تام من النساء ، وفي الرواية الأخرى جعل المثنى كالثلاث وقال : يفسدان صلاة من عن يمينهما ومن عن يسارهما وصلاة رجلين خلفهما وصلاة رجلين خلفهما إلى آخر الصفوف ; لأن للمثنى حكم الثلاث في الاصطفاف حين يصطفان خلف الإمام ، قال : عليه الصلاة والسلام [ ص: 185 ] { الاثنان فما فوقهما جماعة } ، فإن وقفت بحذاء الإمام تأتم به وقد نوى إمامتها فسدت صلاة الإمام والقوم كلهم ; لأن الإمام بسبب المحاذاة في صلاة مشتركة تفسد وبفساد صلاته تفسد صلاة القوم ، وكان محمد بن مقاتل يقول : لا يصح اقتداؤها ; لأن المحاذاة اقترنت بشروعها في الصلاة ، ولو طرأت كانت مفسدة لصلاتها ، فإذا اقترنت منعت صحة اقتدائها ، وهذا فاسد ; لأن المحاذاة لا تؤثر في صلاتها ، وإنما تبطل صلاتها بفساد صلاة الإمام فلا تفسد صلاة الإمام إلا بعد شروعها ; لأن المحاذاة ما لم تكن في صلاة مشتركة لا تؤثر في صلاتها إلا فسادا ، حتى أن الرجل والمرأة إذا وقفا في مكان واحد فصلى كل واحد منهما وحده لا تفسد صلاة الرجل ; لأن الترتيب في المقام إنما يلزمه عند المشاركة كالترتيب بين المقتدي والإمام ، والأصل فيه حديث { عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل وأنا نائمة بين يديه معترضة كاعتراض الجنازة ، فكان إذا سجد خنست رجلي ، وإذا قام مددتهما } . وأما إذا لم ينو الإمام إمامتها لم تكن داخلة في صلاته فلا تفسد الصلاة على أحد بالمحاذاة عندنا ، وقال زفر رحمه الله تعالى يصح اقتداؤها به ، وإن لم ينو إمامتها ، والقياس ما قاله زفر ، فإن الرجل صالح لإمامة الرجال والنساء جميعا ، ثم اقتداء الرجال بالرجل صحيح ، وإن لم ينو الإمامة ، فكذلك اقتداء النساء ، واستدل بالجمعة والعيدين ، فإن اقتداء المرأة بالرجل صحيح فيهما ، وإن لم ينو إمامتها .

( ولنا ) أن الرجل لما كان يلحق صلاته فساد من جهة المرأة أمكنه التحرز عنه بالنية كالمقتدي لما كانت صلاته يلحقها فساد من جهة الإمام أمكنه التحرز عنه بالنية ، وهو أن لا ينوي الاقتداء به ، وهذا ; لأنا لو صححنا اقتداءها بغير النية قدرت على إفساد صلاة الرجل كل امرأة متى شاءت بأن تقتدي به ، فتقف إلى جنبه وفيه من الضرر ما لا يخفى ، وفي صلاة الجمعة والعيدين أكثر مشايخنا قالوا : لا يصح اقتداؤها به ما لم ينو إمامتها ، وإن كان الجواب مطلقا في الكتاب ، ومنهم من سلم فقال : الضرورة في جانبها هاهنا ; لأنها لا تقدر على أداء صلاة العيد والجمعة وحدها ولا تجد إماما آخر تقتدي به ، والظاهر أنها لا تتمكن من الوقوف بجنب الإمام في هذه الصلوات لكثرة الازدحام فصححنا اقتداءها به لدفع الضرر عنها ، بخلاف سائر الصلوات ، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنها إذا وقفت خلف الإمام جاز اقتداؤها به ، وإن لم ينو إمامتها ثم إذا وقفت إلى جنبه فسدت صلاتها لا صلاة الرجل ، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله [ ص: 186 ] الأول ، ووجهه أنها إذا وقفت خلفه فقصدها أداء الصلاة لا فساد صلاة الرجل فلا يشترط نية الإمامة ، فإذا وقفت إلى جنبه فقد قصدت إفساد صلاته فرد قصدها بإفساد صلاتها إلا أن يكون الرجل قد نوى إمامتها ، فحينئذ هو ملتزم بهذا الضرر .

التالي السابق


الخدمات العلمية