وإذا
أخذ عبدا فجاء به إلى مولاه فقال : هذا عبد آبق فقد وجب لي الجعل عليك ، وقال مولى العبد : بل هو الضال . أو قال : أنا أرسلته في حاجة لي فالقول قول المولى ; لأن الراد يدعي لنفسه عليه الجعل ، والمولى ينكر ذلك ، ولأنه يدعي أن ملكه تغيب بالإباق ، والمولى منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه ، وإذا
هلكت اللقطة عند الملتقط فهو على ثلاثة أوجه إن كان حين أخذها قال : أخذتها لأردها على مالكها وأشهد على ذلك شاهدين فلا ضمان
[ ص: 12 ] عليه ; لأنه مأذون في أخذها للرد على المالك مندوب إلى ذلك شرعا ، فكان هذا الأخذ نظير الأخذ بإذن المالك فلا يكون سببا للضمان ، وإن كان أخذها لنفسه وأقر بذلك فهو ضامن لها ; لأنه ممنوع من أخذها فكان متعديا في هذا الأخذ فيكون ضامنا كالغاصب ، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=21691على اليد ما أخذت حتى ترد } أي ضمان ما أخذ ، والآخذ مطلقا من يكون عاملا لنفسه ، وإن لم يكن أشهد عند الالتقاط ولكنه ادعى أنه أخذها للرد ويدعي صاحبها أنه أخذها لنفسه فعلى قول
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد رحمهما الله القول قول صاحبها والملتقط ضامن ، وعند
أبي يوسف رحمه الله القول قول الملتقط مع يمينه لوجهين :
( أحدهما ) أن مطلق فعل المسلم محمول على ما يحل شرعا قال صلى الله عليه وسلم : {
لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا } والذي يحل له شرعا الأخذ للرد لا لنفسه فيحمل مطلق فعله عليه ، وهذا الدليل الشرعي قائم مقام الإشهاد منه .
( والثاني ) أن صاحبها يدعي عليه سبب الضمان ووجوب القيمة في ذمته ، وهو منكر لذلك فالقول قوله كما لو ادعى عليه الغصب ، وهما يقولان كل حر عامل لنفسه ما لم يظهر منه ما يدل على أنه عامل لغيره ، ودليل كونه عاملا لغيره الإشهاد هنا ، فإذا تركه كان آخذا لنفسه باعتبار الظاهر ، هذا إذا وجدها في موضع يتمكن من الإشهاد ، فإن لم يكن متمكنا من الإشهاد لعدم من يشهد أو لخوفه على أن يأخذ منه ذلك ظالم فالقول قوله ولا ضمان عليه ، والثاني أن أخذ مال الغير بغير إذنه سبب موجب للضمان عليه إلا عند وجود الإذن شرعا ، والإذن شرعا مقيد بشرط الإشهاد عليه والإظهار ، فإذا ترك ذلك كان أخذه سببا للضمان عليه شرعا ، فلا يصدق في دعوى المسقط بعد ظهور سبب الضمان ، كمن أخذ مال الغير وهلك في يده ، ثم ادعى أن صاحبه أودعه لم يصدق في ذلك إلا بحجة ، وإن قال : قد التقطت لقطة أو ضالة أو قال : عندي شيء فمن سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي ، فلما جاء صاحبها قال : قد هلكت فهو مصدق على ذلك ولا ضمان عليه ; لأنه أظهرها بما قال ، وتبين أن أخذها للرد فكان أمينا فيها ، ولا يضره أن لا يسمي جنسها ولا صفتها في التعريف ; لأنه إنما امتنع من ذلك لتحقيق الحفظ على المالك كي لا يسمع إنسان ذلك منه فيدعيها لنفسه ويخاصمه إلى قاض يرى الاستحقاق لمصيب العلامة ، فقد بينا أن في هذا اختلافا ظاهرا ، وما يرجع إلى تحقيق الحفظ على المالك لا يكون سببا للضمان عليه ، وكذلك لو وجد لقطتين فقال : من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي ، وإن لم يقل : عندي لقطتان ثم هلكتا
[ ص: 13 ] عنده ، ثم جاء صاحبهما فلا ضمان عليه فيهما ; لأنه أظهرهما بما ذكر من التعريف ، فاللقطة اسم جنس يتناول الواحد ، وما زاد عليه حتى لو قال : عندي لقطة برئ من الضمان ، وإن كانت عنده عشرة ; لأن الإشهاد بهذا اللفظ يتم منه في حق كل واحد منهما ، وإذا أخذ الرجل لقطة ليعرفها ثم أعادها إلى المكان الذي وجدها فيه ، فلا ضمان عليه لصاحبها وإن هلكت قبل أن يصل إليها صاحبها أو استهلكها رجل آخر ; لأن أخذها للتعريف لم يكن سببا لوجوب الضمان عليه .
وكذلك ردها إلى مكانها ; لأنه نسخ لفعله ، فلا يكون سببا لوجوب الضمان عليه ، كرد الوديعة إلى مالكها ورد المغصوب إلى صاحبه ، ولأنه بمجرد الأخذ لا يصير ملتزما للحفظ ، فقد يأخذها على ظن أنها له بأن كان سقط منه مثلها ، فإذا تأملها وعلم أنها ليست له ردها إلى مكانها ، وقد يأخذها ليعرف صفتها حتى إذا سمع إنسانا يطلبها دله عليها ، وقد يأخذها ليحفظها على المالك وهو يطمع في أن يتمكن من أداء الأمانة فيها ، فإذا أحس بنفسه عجزا أو طمعا في ذلك ردها إلى مكانها فلهذا لا يضمن شيئا ، وإنما الضمان على المستهلك لها ، وإن كان الأول
أخذها لنفسه ثم أعادها إلى مكانها فهو ضامن لها إن هلكت ، وإن استهلكها غيره فلصاحبها الخيار يضمن أيهما شاء ; لأن أخذها لنفسه سبب موجب للضمان عليه ، وبعد ما وجب الضمان لا يبرأ إلا بالرد على المالك كالغاصب ، وإعادتها إلى مكانها ليس برد على المالك ، فلا يكون مسقطا للضمان عليه ، وقيل على قول
nindex.php?page=showalam&ids=15922زفر يبرأ عن الضمان ; لأنه نسخ فعله بما صنع فيسقط عنه حكم ذلك الفعل ، ونظائر هذه المسألة ذكرها في اختلاف
nindex.php?page=showalam&ids=15922زفر ويعقوب قال : إذا كانت دابة فركبها ثم نزل عنها ، وتركها في مكانها فعلى قول
nindex.php?page=showalam&ids=15922زفر رحمه الله لا ضمان عليه ، وعلى قول
أبي يوسف رحمه الله هو ضامن لها ، وكذلك لو نزع الخاتم من أصبع نائم ثم أعاده إلى أصبعه بعد ما انتبه ثم نام فعند
أبي يوسف رحمه الله لا يبرأ عن الضمان ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=15922زفر يبرأ عن ضمانه ، ولو أعاده إلى أصبعه قبل أن ينتبه من تلك النومة برئ بالاتفاق
nindex.php?page=showalam&ids=15922فزفر رحمه الله سوى بينهما باعتبار أنه نسخ فعله حين أعاده على الحال الذي أخذه
وأبو يوسف رحمه الله يقول : لما انتبه صاحبه وجب عليه رده في حالة الانتباه ، فلا يكون نومه بعد ذلك مسقطا للضمان عليه بخلاف ما إذا رده قبل أن ينتبه ، وكذلك لو كان ثوبا فلبسه ثم نزعه وأعاده إلى مكانه فهو على هذا الخلاف ، هذا إذا لبسه كما يلبس ذلك الثوب عادة ، فأما إذا كان قميصا فوضعه على عاتقه ثم أعاده إلى مكانه فلا ضمان عليه ; لأن هذا حفظ وليس باستعمال فلا يصير
[ ص: 14 ] به ضامنا ، وكذلك الخاتم إن لبسه في الخنصر فهو استعمال يصير به ضامنا اليد اليمنى واليسرى في ذلك سواء ; لأن بعض الناس يلبسون الخاتم في الخنصر من اليد اليمنى للتزين والاستعمال .
وإن لبسه في أصبع آخر لم يكن ضامنا ; لأن المقصود هنا الحفظ دون التزين به ، وذكر
هشام عن
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد رحمهما الله إن لبسه على خاتم في خنصره لم يكن ضامنا ; لأن المقصود هو الحفظ دون التزين به قال
هشام رحمه الله ، فقلت : له من السلاطين من يتختم بخاتمين للتزين فقال : يكون أحدهما للختم لا لتزين ، ثم قال : حتى أتأمل في هذا ، والحاصل أن الرجل إذا كان معروفا بأنه يلبس خاتمين للتزين فهذا يكون استعمالا منه وإلا فهو حفظ ، وكذلك إن كان سيفا فتقلد به فهذا استعمال ، وإن كان متقلدا سيفا فكذلك ; لأن المبارز قد يتقلد بسيفين إلا أن يكون متقلدا بسيفين فحينئذ تقلده بهذه اللقطة يكون حفظا ولا يكون استعمالا فلا يصير ضامنا لها ، قال : وكذلك الغاصب إذا رد الدابة إلى دار صاحبها لم يبرأ من الضمان حتى يدفعها إلى صاحبها بخلاف المستعير ، فإنه ليس بضامن لها ، فإذا ردها إلى دار صاحبها فقد أتى بما هو المعتاد في الرد ، فلا يكون ضامنا شيئا ، فأما الغاصب ضامن لها فحاجته إلى رد مسقط للضمان عليه ، ولا يحصل ذلك ما لم يدفعها إلى صاحبها .
رجل جاء إلى دابة مربوطة لرجل فحلها ولم يذهب بها ثم ذهبت الدابة ، فلا ضمان على الذي حلها ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد رحمه الله أنه ضامن لها ، وعلى هذا لو فتح باب القفص فطار الطير أو فتح باب الإصطبل ففرت الدابة ، وجه قول
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد أن الذي حل الرباط أو فتح الباب في الحقيقة مزيل للمانع موجد شرط الذهاب ، إلا أن ما هو علة للتلف هنا وهو فعل الطير والدابة ساقط الاعتبار شرعا ، وفي مثله يحال الإتلاف على صاحب الشرط فيصير ضامنا كحافر البئر في الطريق ، فإنه أوجد شرط السقوط بإزالة المسكة عن الأرض ، فأما العلة ثقل الماشي في نفسه ومشيه في ذلك الموضع ، ولكن لما تعذر إضافة الإتلاف إليه إذا لم يكن عالما به كان مضافا إلى الحافر حتى يكون ضامنا ، وكذلك من شق زق إنسان فسال منه مائع كان فيه فهو ضامن ، وعمله إزالة المانع فقط ، فأما علة السيلان كونه مائعا ، ولكن لما تعذر إضافة الحكم إلى ما هو العلة كان مضافا إلى الشرط ، وعلى هذا لو قطع حبل قنديل فسقط فعمل القاطع في إزالة المانع فكان ضامنا لهذا المعنى
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان : عمله في اتحاد الشرط كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد رحمه الله ، وقد طرأ على ذلك الفعل فعل فاعل معتبر حصل به التلف فيسقط اعتبار ذلك الشرط ، ويحال بالتلف على هذا
[ ص: 15 ] الفعل المعتبر ، قوله بأن فعل الدابة هدر قلنا : نعم هو غير معتبر في إيجاب الضمان ، ولكنه معتبر في نسخ حكم الفعل به ، ألا ترى أن من أرسل دابته في الطريق فأصابت في سير إرساله مالا أو نفسا كان المرسل ضامنا ، ولو تيامنت أو تياسرت ثم أصابت شيئا لم يضمن المرسل ، واعتبر فعلها في نسخ حكم فعل المرسل به فكذلك هنا يعتبر فعلها في نسخ حكم فعل الذي حلها أو فتح باب الإصطبل به ، وهو نظير من حفر بئرا في الطريق فجاء حربي لا أمان له ، وألقى فيه غيره لم يضمن الحافر شيئا ، وفعل الحربي غير معتبر في إيجاب الضمان عليه ، ثم كان معتبرا في نسخ حكم فعل الحافر به .
وهذا بخلاف مسألة الزق والحبل ، فإنه ما طرأ على فعله ما ينسخه حتى إذا كان ما في الزق جامدا ، ثم ذاب بالشمس فسال لم يضمن الشاق ، فإن قيل : كيف يستقيم القول في هذه الفصول بأن عمله في اتحاد الشرط ، والشرط يتأخر عن العلة لا يسبقها قلنا : هذا شرط في معنى السبب ، فإن الحكم يوجد عند وجود الشرط وعند وجود السبب ، إلا أن السبب يتقدم ، والشرط يتأخر ، فهذا التقدم في معنى السبب ، ولكونه مزيلا للمانع هو شرط كما بينا ، وعلى هذا لو حل قيد عبد آبق فذهب العبد لم يضمن شيئا لما قلنا ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد رحمه الله إلا أن يكون العبد مجنونا فحينئذ يضمن لأن فعله في الذهاب غير معتبر شرعا فيبقى الإتلاف مضافا إلى إزالة المانع بحل القيد ، وقال أيضا : لو كان هذا المجنون مقيدا في بيت مغلق فحل إنسان قيده وفتح آخر الباب فذهب فالضمان على الفاتح ; لأن حل القيد لم يكن إزالة للمانع قبل فتح الباب وإتمام ذلك بالفاتح للباب فهو الضامن ، وعلى قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رضي الله عنه في هذه الفصول إن ذهب في فور فتح الباب أو حل الرباط فهو ضامن ، وإن لم يذهب في فوره ذلك فلا ضمان عليه ; لأنه لما لم يذهب في فوره فقد علمنا أن الباب لم يكن مانعا له ، وإنما ذهب بقصد حدث له ، وقصد الدابة عنده معتبر ، وإذا ذهب في فوره فقد علمنا أن الباب كان مانعا ، ومن أزال هذا المانع فهو متعد فيما صنع فيكون ضامنا ، وإذا كانت اللقطة في يد مسلم فادعاها رجل ووصفها فأبى الذي في يده أن يدفعها إليه إلا ببينة ، فأقام شاهدين كافرين لم تجز شهادتهما ; لأنها تقوم على المسلم في استحقاق يده عليه ، وشهادة الكافر ليست بحجة على المسلم ، وإن كانت في يد كافر فكذلك في القياس ; لأني لا أدري لعلها ملك المسلم ، وشهادة الكافر في استحقاق ملك المسلم ليست بحجة ، ولكن في هذا الاستحسان يقضى له بشهادتهما ; لأنها تقوم لاستحقاق اليد على الملتقط ، والملتقط كافر .
وشهادة الكافر حجة على الكافر ، ثم كما
[ ص: 16 ] يتوهم أنها لمسلم يتوهم أنها لكافر فتقابل الموهومات مع أن الموهوم لا يعارض المعلوم ، وإن كانت في يدي مسلم وكافر لم تجز شهادتهما في القياس على واحد منهما ، وفي الاستحسان يجوز على الكافر منهما فيقضي له بما في يد الكافر لما قلنا ، وإذا أقر الملتقط بلقطة لرجل وأقام آخر البينة أنها له قضيت بها للذي أقام البينة لما قلنا أن البينة حجة في حق الكل ، والإقرار ليس بحجة في حق الغير ، والضعيف لا يعارض القوي ، فإن أقر بها لأحدهما أولا ، ودفعها إليه بغير حكم فاستهلكها ، ثم أقام آخر البينة فله أن يضمن إن شاء الدافع ، وإن شاء القابض ; لأنه أثبت ملكه بالحجة ، وكل واحد منهما متعد في حقه ، فإن ضمن الدافع ولم يرجع على القابض ; لأنه مقر أن القابض أخذ ملك نفسه ، وأنه ليس بضامن شيئا ، وإقراره حجة عليه في إسقاط حقه ، وإن ضمن القابض لم يرجع على الدافع أيضا ; لأنه في القبض كان عاملا لنفسه ، وإن دفع بقضاء القاضي فله أن يضمن القابض إن شاء لما قلنا ، وإن أراد أن يضمن الدافع فقد قال مرة في آخر هذا الكتاب : ليس له أن يضمن الدافع ، وقال مرة أخرى : له أن يضمن الدافع ، وحيث قال له أن يضمن الدافع فهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد رحمه الله ، وما قال ليس له أن يضمن الدافع فهو قول
أبي يوسف رحمه الله ، وأصله مسألة الوديعة إذا قال : هذا العين في يدي لفلان أودعنيه فلان لرجل آخر ، فإن دفعه إلى المقر له الأول بغير قضاء القاضي ضمن للمقر له الوديعة بالاتفاق ، وإن دفعه بقضاء القاضي فكذلك عند محمد ; لأنه بإقراره سلط القاضي على القضاء ، فهو كما لو دل إنسانا على سرقة الوديعة ، وعند
أبي يوسف رحمه الله لا ضمان عليه لأن بإقراره لم يتلف شيئا على صاحب الوديعة ، والدفع كان بقضاء القاضي ، فلا يكون موجبا للضمان عليه فكذلك هنا الملتقط أمين كالمودع ، فإذا دفع إلى المقر له بقضاء القاضي لم يضمن في قول
أبي يوسف شيئا لمن يقيم البينة ، وهو ضامن له في قول محمد ، والله أعلم .