ولو
غصب مسلم من مسلم خمرا فجعلها خلا ، ثم استهلكها فعليه خل مثلها ; لأنه بعد ما جعلها خلا بقيت على ملك صاحبها حتى كان له أن يأخذها منه ، فإذا استهلكها فقد استهلك مالا متقوما لغيره ، وذلك موجب للضمان عليه أمانة كانت عنده أو مضمونة .
وكذلك لو
غصب جلد ميتة فدبغه بشيء لا قيمة له ثم استهلكه فعليه ضمان قيمته ; لأنه باق على ملك صاحبه ; ولهذا يتمكن من أخذه من غير أن يعطيه عوضا . ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول : يضمنه قيمته طاهرا غير مدبوغ ; لأن صفة الدباغ حصل بفعله ، فلا يوجب الضمان عليه ، ولكن من ضرورته زوال صفة النجاسة ، وذلك غير حاصل بفعله بل يتميز الجلد من الدسومات النجسة . وأكثرهم على أنه يضمنه قيمته مدبوغا ; لأن صفة الدباغ هنا تبع للجلد ، وهو غير معتبر منفردا عن الجلد ; ولهذا لا يغرم باعتباره شيئا ، وإذا صار أصل الجلد مضمونا عليه بالاستهلاك فكذلك ما يتبعه كالخمر إذا خلله ، فأما إذا دبغه بشيء له قيمة ثم استهلكه ، فلا ضمان عليه في قول
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، وفي قول
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد - رحمهما الله تعالى - يضمن قيمة الجلد مدبوغا ويعطيه ما زاد الدباغ فيه .
وجه قولهما أن الجلد باق على ملك صاحبه بعد الدباغ ، وهو مضمون الرد على الغاصب ، ولكن يشترط أن يعطيه ما زاد الدباغ فيه ، فإذا استهلكه كان ضامنا كالثوب المغصوب إذا صبغه ثم استهلكه ، وهذا لمعنيين :
( أحدهما ) أن الاستهلاك جناية موجبة للضمان في محل هو مال متقوم ، وقد وجد ذلك لما بقي الجلد على ملك صاحبه بعد ما صار مالا متقوما كما في الثوب ، إلا أن هناك السبب الأول وهو الغصب غير موجب للضمان أيضا ، فله أن يضمنه بأي السببين شاء ، وهنا الأول وهو الغصب موجب للضمان فيتعين التضمين بالسبب الثاني ، وكان هو في هذا السبب كغيره ، ولو
استهلكه [ ص: 106 ] غيره كان للمغصوب منه أن يضمن المستهلك ويعطي الغاصب ما زاد الدباغ فيه .
( والثاني ) وهو أنه لما بقي الجلد مضمون الرد عليه ، وإذا
تعذر رد عينها باستهلاكه يجب عليه رد قيمته ; لأنه بالاستهلاك فوت ما كان مستحقا عليه ، والتفويت موجب للضمان ، وبه فارق ما لو هلك في يده ، فإن التفويت منه لم يوجد ، وهو نظير المستعار إذا فوت المستعير رده بالاستهلاك ضمن قيمته ; بخلاف ما إذا فات بغير صنعه .
وكذلك لو
دبغه بشيء لا قيمة له أو جعل الخمر خلا ، فلا يضمن إذا فوت الرد بالاستهلاك ، ولا يضمن إذا هلك في يده ، وحجة
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رحمه الله في ذلك أن المغصوب منه استفاد المالية والتقوم في هذا الجلد من الغاصب ببدل استوجبه الغاصب عليه ، فلا يكون له أن يضمنه شيئا بعد استهلاكه كما لو استهلك البائع المبيع قبل التسليم ، وتقريره من وجهين :
( أحدهما ) أن الاستهلاك غير موجب للضمان عليه باعتبار ما زاد الدباغ فيه ; لأن ذلك كان مملوكا له قبل الاتصال بالجلد ، وبعد الاتصال بقي حقا له حتى كان له أن يحبسه ليستوفي بدله ، والجلد بدون هذا الوصف لا يكون مضمونا عليه بالاستهلاك كما لو استهلكه قبل الدباغ ، وبه فارق الثوب ، فإن الاستهلاك فيه بدون صفة الصبغ موجب للضمان ، وبه فارق ما إذا دبغه بشيء لا قيمة له ; لأن الصنعة ما بقيت حقا للغاصب بعد الاتصال بالجلد ; ولهذا لا يحبسه ، ولا يرجع ببدله ، وكذلك الخمر إذا خلله .
( والثاني ) أن ما اتصل بالجلد من الصفة هنا مال متقوم للغاصب حقيقة وحكما وهو قائم من كل وجه ، وقد كان مالا قبل الاتصال بالجلد ، وبقي بعده كذلك ، وأما أصل الجلد لم يكن مالا متقوما قبل الدباغ ، وما كان مالا بنفسه ومتصلا بغيره يترجح على ما لم يكن مالا قبل الاتصال ، وإنما صار مالا بالاتصال فتكون العبرة للراجح واستهلاكه فيه غير موجب للضمان ، بخلاف الثوب ; لأن الأصل هناك كان مالا قبل الاتصال ، وإنما صار مالا بالاتصال ، ولما استويا في صفة المالية رجحنا ما هو الأصل . وإذا دبغه بشيء لا قيمة له فالوصف ليس بمال قبل الاتصال ولا بعده ، والأصل مال بعد الاتصال فرجحنا جانب الأصل لهذا ، ولا يقال في حال بقاء الجلد رجحنا حق صاحب الأصل حتى مكناه من أخذه . ويملك الوصف على الغاصب بعوض ، وهذا لأن أخذ العين كان باعتبار الملك دون المالية والتقوم ; ولهذا كان متمكنا من استرداده قبل الدباغ ، وفي حكم الملك الأصل مرجح ; لأنه كان مملوكا قائما بنفسه قبل الاتصال وبعده ، فأما وجوب الضمان عند الاستهلاك باعتبار صفة المالية والتقوم ، وصفة الدباغ في معنى المالية والتقوم يترجح على
[ ص: 107 ] أصل الجلد فيعتبر ذلك في إيجاب الضمان .
يحقق ما قلنا أن فائدة وجوب الضمان الاستيفاء ، ولا يستوفي منه قدر مالية الدباغة بالاتفاق ، وكيف يستوفي منه ما هو واجب له على غيره .
ولو
ظفر صاحب الحق بجنس حقه فاستهلكه لم يغرم شيئا ، فإذا ظفر بعين حقه فاستهلكه أولى أن لا يضمن شيئا ، فإذا تعذر إيجاب هذا القدر عليه انفصل أصل الجلد عن صفة الدباغة حكما فيعتبر بما لو كان منفصلا حقيقة ، فلا يجب عليه ضمان قيمة الجلد ، وهما قد اعتبرا هذا حتى قالا : لا يكون له أن يضمنه قيمة الجلد غير مدبوغ .