قال :
ومن وهب هبة مقسومة لذي رحم محرم ، وسلمها إليه ; فليس له أن يرجع فيها ، وإن وهبها لأجنبي ، أو لذي
[ ص: 53 ] رحم ليس بمحرم فله أن يرجع فيها ، وهما فصلان ، أحدهما : إذا
وهب لأجنبي شيئا ، فله أن يرجع في الهبة عندنا - ما لم يعوض منها في الحكم - وإن كان لا يستحب له ذلك بطريق الديانة ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ليس له أن يرجع فيها ; لقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=67389عليه الصلاة والسلام لا يرجع الواهب في هبته إلا الوالد فيما يهب لولده } ، وفي رواية قال : لا يحل ، فقد نفى الرجوع أو حرم ، ولا يجوز
الإقدام على ارتكاب الحرام شرعا ، وقال عليه الصلاة والسلام {
nindex.php?page=hadith&LINKID=14577 : العائد في هبته كالعائد في قيئه } ، وفي رواية : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=80965كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه } ،
والعود في القيء حرام ، فكذلك الرجوع في الهبة ، والمعنى فيه أن : الهبة عقد تمليك فمطلقه لا يقتضي الرجوع فيه كالبيع ; وهذا لأن الرجوع يضاد المقصود بالتمليك ، والعقد لا ينعقد موجبا ما يضاد المقصود به ، وإنما يثبت حق الرجوع قبل تمامه كما فيما بين الوالد والولد باعتبار أن الولد كسبه - على ما نبينه - أو أنه بعضه ، فلا يتم إخراجه عن ملكه لما جعلها محرزة ، وهذا لا يوجد فيما بين الأجانب ، وهو معنى قولهم ليس بين الواهب والموهوب له حزونة ، فلا يرجع أحدهما فيما يهب لصاحبه كالأخوين ، وحجتنا في ذلك : حديث
nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {
nindex.php?page=hadith&LINKID=80966قال الواهب أحق بهبته - ما لم يثب } منها - .
والمراد : حق الرجوع بعد التسليم ; لأنها لا تكون هبة حقيقية قبل التسليم ، وإضافتها إلى الواهب على معنى أنها كانت له كالرجل يقول : أكلنا خبز فلان الخباز ، وإن كان قد اشتراه منه ; ولأنه مد هذا الحق إلى وصول العوض إليه ، وذلك في حق الرجوع بعد التسليم ، وفي قوله تعالى : {
فحيوا بأحسن منها أو ردوها } ما يدل على ذلك ، وقد بينا أن المراد بالتحية : العطية ، قال القائل :
تحيتهم بيض الولائد بينهم
يريد عطاياهم . وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : عليه الصلاة والسلام {
nindex.php?page=hadith&LINKID=37604من وهب هبة ، ثم أراد أن يرجع فيها فليوقف وليعرف قبح فعله } . وفي رواية : حسن فعله فإن أبى يرد عليه ، والمراد : حسن فعله في الهبة ، وقبح فعله في الرجوع ( وعن )
فضالة بن عبيد أن رجلين اختصما إليه فقال أحدهما : إني وهبت لهذا بازيا ; ليثيبني ولم يثبني ، فأنا أرجع فيه . فقال
فضالة : لا يرجع في الهبة إلا النساء والشرار من الناس ; اردد ( وعن )
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء رضي الله عنه قال : الواهبون ثلاثة : رجل وهب على وجه الصدقة ، فليس له أن يرجع فيها ، ورجل استوهب فوهب ، فله أن يرجع فيها - ما لم يعوض - ورجل وهب بشرط العوض فهي دين له في حياته ، وبعد موته ، والمعنى فيه : أنه يمكن الخلل في المقصود بالعقد ، فيتمكن العاقد من الفسخ كالمشتري إذا وجد بالمبيع عيبا . وبيان ذلك : أن المقصود من الهبة للأجانب العوض والمكافأة ، والمرجع
[ ص: 54 ] في ذلك إلى العرف . والعادة الظاهرة أن الإنسان يهدي إلى من فوقه ; ليصونه بجاهه ، وإلى من دونه ; ليخدمه ، وإلى من يساويه ; ليعوضه ، وإليه أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله لوفد
ثقيف لما أتوه بشيء أصدقة أم هبة ؟ .
فالصدقة يبتغى بها وجه الله - تعالى - والهبة يبتغى فيها وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقضاء الحاجة . ومنه يقال : للأيادي قروض ، وقال القائل
: وإذا جوزيت قرضا فاجزه إنما يجزي الفتى ليس الحمل
وبهذا يتبين أن حق الرجوع ليس بمقتضى العقد عندنا ، بل لتمكن الخلل في المقصود بالعقد على معنى أن المعروف كالمشروط ، ولا يقال : إنما يقصد العوض بالتجارات ، فأما المقصود بالهبة : إظهار الجود والسخاء ، والتودد والتحبب ، وقد حصل ذلك ; وهذا لأن العوض في التجارات مشروط ، وفي التبرعات مقصود ، ومعنى إظهار الجود أيضا مقصود ، فإنما يمكن الخلل في بعض المقصود ، وذلك يكفي للفسخ مع أن إظهار الجود مقصود كريم الخلق ، ولهذا يقول : الراجع في الهبة لا يكون كريم الخلق فأما مقصود طيبة النفس العوض ، ومعنى التودد إنما يحصل بالعوض - كما قال : عليه الصلاة والسلام {
nindex.php?page=hadith&LINKID=16975تهادوا تحابوا } . فإن التفاعل يقتضي ، وجود الفعل من الجانبين كالمفاعلة فأما الحديث فالمراد به أن لا ينفرد بالرجوع من غير قضاء ولا رضا . إلا الوالد إذا احتاج إلى ذلك فينفرد بالأخذ لحاجته ، وسمي ذلك رجوعا باعتبار الظاهر ، وإن لم يكن رجوعا في الحكم . كما روي {
nindex.php?page=hadith&LINKID=80967أن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب حمل على فرس في سبيل الله ثم رأى ذلك الفرس يباع فأراد أن يشتريه فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : لا تعد في صدقتك } .
والشراء لا يكون رجوعا في الصدقة حكما ، والمراد : لا يحل الرجوع بطريق الديانة والمروءة ، وهو كقوله : عليه الصلاة والسلام {
nindex.php?page=hadith&LINKID=81554لا يحل لرجل يؤمن بالله ، واليوم الآخر أن يبيت شبعان ، وجاره إلى جنبه طاو . أي : } لا يليق ذلك بالديانة والمروءة ، وإن كان جائزا في الحكم إذا لم يكن عليه حق واجب ، والمراد بالحديث الآخر : التنبيه في معنى الاستقباح ، والاستقذار ; ألا ترى أنه : شبه بعود الكلب في قيئه ، وفعل الكلب يوصف بالقبح لا بالحرمة ، وبه نقول ، وأنه يستقبح ، وقد بينا الفرق بين هذا ، وبين الأخوين ، والزوجين لحصول ما هو المقصود هناك ، وتمكن الخلل فيما هو المقصود هنا ; ولهذا يحتاج إلى القضاء ، أو الرضا في الرجوع ; لأنه بمنزلة الرد بالعيب بعد القبض من حيث إن السبب تمكن الخلل في المقصود ، فلا يتم إلا بقضاء ، أو رضا ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .