كتاب أدب القاضي
( قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام
أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء : اعلم بأن
القضاء بالحق من أقوى الفرائض بعد الإيمان بالله تعالى وهو من أشرف العبادات لأجله أثبت الله تعالى
لآدم عليه السلام اسم الخلافة فقال
[ ص: 60 ] جل جلاله {
إني جاعل في الأرض خليفة } وأثبت ذلك
لداود فقال عز وجل {
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } ، وبه أمر كل نبي مرسل حتى خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى {
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون } . وقال الله تعالى {
، وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } ) ، وهذا لأن في القضاء بالحق إظهار العدل وبالعدل قامت السموات والأرض ورفع الظلم وهو ما يدعو إليه عقل كل عاقل ، وإنصاف المظلوم من الظالم واتصال الحق إلى المستحق وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ولأجله بعث الأنبياء والرسل رضوان الله عليهم ، وبه اشتغل الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم .
وقد دل على جميع ما قلنا الحديث الذي بدأ به
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد رحمه الله الكتاب ورواه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11939أبي بكر الهذلي عن
أبي المليح عن
أسامة الهذلي أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة ، وما كتب
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر إلى
أبي موسى رضي الله عنهما عند الناس يسمونه كتاب سياسة القضاء وتدبير الحكم وقوله أما بعد أي بعد الثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله وهذه الكلمة علامة بها يعرف تحول الكاتب إلى بيان مقصوده من الكتاب وعد من فصل الخطاب قيل في تأويل قوله تعالى {
وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب } الحكمة النبوة وفصل الخطاب أما بعد . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة الحكمة الفقه وفصل الخطاب البينة على المدعي واليمين على من أنكر وقوله فإن القضاء فريضة محكمة أي مقطوع بها ليس فيها احتمال نسخ ولا تخصيص ولا تأويل فتفسير المحكم هذا بيانه في قوله تعالى {
آيات محكمات هن أم الكتاب } ومنه يقال بناء محكم والفرض هو التقدير والقطع قال الله تعالى {
سورة أنزلناها وفرضناها } وقوله سنة متبعة أي طريقة مسلوكة في الدين يجب اتباعها على كل حال فالسنة في اللغة الطريقة ، وما يكون متبعا منها فأخذها هدى وتركها ضلالة ( قال ) فافهم إذا أدلى إليك الخصمان والإدلاء رفع الخصومة إلى الحاكم والفهم إصابة الحق فمعناه عليك ببذل المجهود في إصابة الحق إذا أدلى إليك وقيل معناه اسمع كلام كل واحد من الخصمين وافهم مراده وبهذا يؤمر كل قاض ; لأنه لا يتمكن من تمييز الحق من المبطل إلا بذلك وربما يجري على لسان أحد الخصمين ما يكون فيه إقرار بالحق لخصمه . فإذا فهم القاضي ذلك أنفذه . وإذا لم يفهم ضاع وإليه أشار في قوله فإنه لا ينفع تكلم بحق ولا نفاذ له وقيل المراد استمع إلى كلام الشهود وافهم مرادهم فإنهم يتكلمون بالحق بين يديك .
وإنما يظهر منفعة ذلك لتنفيذ القاضي
[ ص: 61 ] إياه ، ثم قال أس بين الناس معناه سو بين الخصمين فالتأسي في اللغة التسوية قال قائلهم :
فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن
أعز النفس عنهم بالتأسي
وفيه دليل أن
على القاضي أن يسوي بين الخصوم إذا تقدموا إليه اتفقت مللهم أو اختلفت فاسم الناس يتناول الكل ، وإنما يسوى بينهم فيما أشار إليه في الحديث فقال في وجهك ومجلسك وعدلك يعني في النظر إلى الخصمين والإقبال عليهما في جلوسهما بين يديه حتى لا يقدم أحدهما على الآخر ، وفي عدله بينهما وبالعدل أمر وحكي أن
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبا يوسف رحمه الله قال في مناجاته عند موته اللهم إن كنت تعلم أني ما تركت العدل بين الخصمين إلا في حادثة واحدة فاغفرها لي قيل وما تلك الحادثة قال ادعى نصراني على أمير المؤمنين دعوى فلم يمكني أن آمر الخليفة بالقيام من مجلسه والمحاباة مع خصمه ، ولكني رفعت النصراني إلى جانب البساط بقدر ما أمكنني ، ثم سمعت الخصومة قبل أن أسوي بينهما في المجلس فهذا كان جوري ليعلم أن هذا من أهم ما ينبغي للقاضي أن ينصرف إليه في العناية لما أشار إليه في الحديث فقال لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك والحيف هو الظلم قال الله تعالى {
أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } .
فإذا قدم الشريف طمع في ظلمه وانكسر بهذا التقديم قلب خصمه الضعيف فيخاف الجور ، وربما يتمكن للشريف عند هذا التقديم من التلبس ويعجز الضعيف عن إثبات حقه بالحجة والقاضي هو المسبب لذلك بإقباله على أحدهما وتركه التسوية بينهما في المجلس ويصير به متهما بالميل أيضا وهو مأمور بالتحرز عن ذلك بأقصى ما يمكنه ( قال ) {
nindex.php?page=hadith&LINKID=13922البينة على المدعي واليمين على من أنكر } ، وهذا اللفظ مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد من جوامع الكلم على ما قال صلوات الله وسلامه {
nindex.php?page=hadith&LINKID=81178أوتيت جوامع الكلم واختصر لي اختصارا } ، وقد أملينا فوائد هذين الحديثين في شرح كتاب الدعوى .