وإذا
دفع الرجل إلى الرجل نخلا ووكله بأن يدفعها معاملة هذه السنة أو لم يسم له وقتا - فهذا على أول سنة للعرف ، فإن دفعه بما يتغابن الناس فيه جاز وصاحب النخل هو الذي قبض نصيبه لأنه يملك التمر بملكه النخل لا بالعقد الذي باشره الوكيل فإن دفعه بما لا يتغابن الناس فيه فالخارج لصاحب النخل ; لأنه وكله باستئجار العامل فلا ينفذ تصرفه بالغبن الفاحش على الموكل ، وللعامل أجر مثله على الوكيل لأنه استأجره ببعض الخارج وقد حصل الخارج واستحقه رب النخل فيستوجب الرجوع بأجر مثله . ولو
وكله بأن يأخذ نخلا بعينه فأخذه بما يتغابن الناس فيه جاز على الشرط ، وصاحب النخل هو الذي يلي قبض نصيبه ; لأنه يملكه بسبب تولده من نخله ، وإن أخذه بما لا يتغابن الناس فيه من قلة نصيب العامل لم يلزم العامل ذلك إلا أن يشاء ، فإن عمله وقد علم نصيبه منه أو لم يعلم كان له نصيبه الذي سمى له ، أما إذا علم به فلوجود دلالة الرضا منه بالإقدام على العمل بعد العلم بحقيقة الحال ، وأما إذا لم يعلم به فهو استحسان لما فيه من المنفعة للعامل ; لأنه لو لم ينفذ تصرفه عليه لم يستوجب شيئا . وإذا
أمره أن يأخذ له نخلا معاملة أو أرضا وبذرا مزارعة ولم يعين شيئا من ذلك لم يجز ; لأن الوكيل عاجز عن تحصيل مقصود الموكل مع هذه الجهالة المستتمة ، فإن العمل يختلف باختلاف النخل والأراضي على وجه لا يمكن أن يوقف فيه على شيء معلوم .
وإذا
أمره بأن يدفع أرضه مزارعة أو أن يدفع نخله معاملة إلى رجل ولم يعين الرجل - جاز ، لأن دفع الأرض مزارعة بمنزلة إجارتها . ومن وكل غيره بأن يؤاجر أرضه مدة معلومة جاز وإن لم يبين من يؤاجرها منه ; لأن المعقود عليه منفعة الأراضي وهي معلومة لا تختلف باختلاف المستوفي ، وكذلك في المعاملة مقدار العمل قد صار معلوما ببيان النخل على وجه لا يختلف باختلاف العامل . ولو أمره بأن يدفع أرضه هذه مزارعة فأعطاها رجلا وشرط عليه أن يزرعها حنطة أو شعيرا أو سمسما أو أرزا فهو جائز ; لأن دفع الأرض مزارعة لهذه الأشياء متعارف ، فمطلق التوكيل ينصرف إلى هذه الأشياء كلها ، والوكيل يكون ممتثلا أمره في جميع ذلك .
وكذلك لو
وكله أن يأخذ له هذه الأرض وبذرا معها مزارعة فأخذها مع بذر حنطة أو شعيرا أو غير
[ ص: 141 ] ذلك من الحبوب - جاز ذلك على الموكل ; لأنه وكله ليؤاجره في عمل الزراعة وهو في جميع ذلك متعارف ، فمطلق التوكيل ينصرف إلى جميع ذلك . ولو
وكله أن يأخذ له هذه الأرض مزارعة فأخذها من صاحبها للموكل على أن يزرعها حنطة أو شرط عليه شعيرا أو غيره - لم يكن له أن يزرع إلا ما شرط عليه رب الأرض ; لأن الوكيل إذا امتثل أمره كان عقده كعقد الموكل بنفسه وهو لو أخذ أرضا مزارعة ليزرعها حنطة لم يكن له أن يزرعها غير الحنطة ; لأن صاحب الأرض إنما رضي بأن يكون أجر أرضه الحنطة فلا يملك المستأجر أن يحولها إلى غيره .
ولو وكله بأن يدفع أرضا له مزارعة هذه السنة فأجرها ليزرع حنطة أو شعيرا بكر من حنطة وسط أو بكر من شعير وسط أو سمسم أو أرز أو غير ذلك مما تخرجه الأرض - فذلك جائز استحسانا ، وفي القياس هو مخالف ; لأن الموكل إنما رضي بالمزارعة ليكون شريكا في الخارج وقد أتى بغير ذلك حين أجرها بأجرة مسماة ، ولكنه استحسن فقال : قد حصل مقصود الآمر على وجه يكون أنفع له ; لأنه لو دفعها مزارعة فلم يزرعها أو أصاب الزرع آفة لم يكن لرب الأرض شيء ، وهنا تقرر حق رب الأرض دينا في ذمة المستأجر إذا تمكن من زراعتها وإن لم يزرع أو أصاب الأرض آفة ، ومتى أتى الوكيل بجنس ما أمر به وهو أنفع للآمر مما نص عليه لم يكن مخالفا ، وإذا لم يكن مخالفا كان عقده كعقد الموكل بنفسه ، فللمستأجر أن يزرع ما بدا له ، والتقييد بالحنطة أو الشعير غير مفيد هنا في حق رب الأرض فإنه لا شركة له في الخارج بخلاف الدفع مزارعة .
وإن أجرها بدراهم أو ثياب أو نحوها مما لا يزرع لم يجز ذلك على الموكل لأنه خالف في الجنس ، فرب الأرض نص على أن يدفعها مزارعة وذلك إجارة الأرض بشيء تخرجه الأرض ، فإذا أجرها الوكيل بشيء لا تخرجه الأرض كان مخالفا في جنس ما نص عليه الموكل ، فهو بمنزلة الوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار لا ينفذ على الموكل ، بخلاف ما إذا باعه بألفي درهم . وكذلك إن أمره أن يدفعها هذه السنة مزارعة في الحنطة خاصة فأجرها بكر حنطة وسط جاز ، ويزرعها المزارع ما بدا له من الزراعات مما يكون ضرره على الأرض مثل ضرر الحنطة أو أقل منها ; لأن تسمية رب الأرض الحنطة معتبرة في معرفة مقدار الضرر على الأرض به ، وهو لم يخالفه في الجنس حين سمى الآخر كر حنطة وسط ، وإن أجر بغير الحنطة صار مخالفا للموكل في جنس ما سمى له من أجر الأرض فلا ينفذ تصرفه عليه .
ولو
وكله أن يدفعها مزارعة بالثلث فدفعها على أن لرب الأرض الثلث جاز ; لأن حرف
[ ص: 142 ] الباء يصحب الأعواض ، ورب الأرض هو الذي يستحق الخارج عوضا عن منفعة أرضه ، فكان هذا بمنزلة التنصيص على اشتراط الثلث له . فإن قال رب الأرض إنما عنيت أن للمزارع الثلث لم يصدق ; لأن ما يدعيه يخالف الظاهر إلا أن يكون البذر من قبله فيكون القول قوله حينئذ ; لأن المزارع هو الذي يستوجب الخارج عوضا عن عمله بالشرط . ولو
وكله أن يدفعها مزارعة بالثلث فأجرها لرجل بكر حنطة وسط مخالف ; لأن رب الأرض هنا نص على ما هو منافع أرض وهو ثلث الخارج وقد أجرها بغير ذلك ، ثم هنا نص على الشركة في الخارج والإجارة بكر من حنطة ليس فيها معنى الشركة فكان هذا مخالفة في الجنس في العقد الذي أمره به ، فإن زرعها المستأجر كان الخارج للمزارع وعليه كر حنطة وسط للمؤاجر ; لأن المؤاجر صار غاصبا للأرض ، ولرب الأرض أن يضمن نقصان الأرض : إن شاء المزارع ، وإن شاء الوكيل في قول
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف الأول ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد - رحمهما الله - لأن الوكيل غاصب والمزارع متلف ، فإن ضمنها المزارع رجع بها على الوكيل لأجل الغرور ، ويأخذ المؤاجر من الكر الذي أخرجته الأرض ما ضمن ويتصدق بالفضل ; لأنه كسب خبيث .
وإن
وكله بأن يؤجرها بكر حنطة وسط فدفعها مزارعة بالنصف على أن يزرعها حنطة فزرعها فهو مخالف ; لأن ما أتى به أضر على الموكل مما أمره به ; لأنه أمره بعقد يتقرر به حقه في الأجر إذا تمكن المستأجر من الانتفاع بها وإن لم ينتفع ; ولأنه نص على إجارة محضة وقد أتى بعقد الشركة فكان مخالفا ، وتفريع هذه كتفريع الأولى . ولو
وكله أن يأخذ هذه الأرض مزارعة فاستأجرها الوكيل بكر حنطة - لم يجز على الآمر ; لأن ما أتى به أضر عليه ; لأنه ألزمه الكر دينا في ذمته عند تمكنه من الزراعة وإن لم يزرع ، وهو ما أمره بذلك فلا ينفذ تصرفه عليه إلا أن يرضى به .
ولو
وكله بأن يأخذها له مزارعة بالثلث فأخذها الوكيل على أن يزرعها المزارع ويكون للمزارع ثلث الخارج ولرب الأرض ثلثاه - لم يجز هذا على المزارع ; لأن الكلام الذي قاله المزارع إنما يقع على أن لرب الأرض الثلث لما بينا أن رب الأرض هو الذي يستحق الخارج عوضا عن منفعة الأرض ، فما يصحبه حرف الباء يكون حصته من الخارج ، وقد أتى بضده . ولو كان
أمره أن يأخذ الأرض والبذر - والمسألة بحالها - جاز ذلك على المزارع ; لأن المعقود عليه هنا هو عمل العامل وهو الذي يستحق الخارج بمقابلة عمله ، فإذا شرط الثلث له كان ممتثلا أمره . ولو
وكله أن يدفع نخله هذا معاملة بالثلث فدفعها على أن الثلثين للعامل - لم يجز ذلك على رب
[ ص: 143 ] النخيل ; لأن العامل هو الذي يستحق الخارج بالشرط فإنما ينصرف أمر رب النخيل بهذا اللفظ إلى اشتراط الثلث له .
ولو
وكله أن يأخذ له نخل فلان هذه السنة معاملة بالثلث فأخذه على أن الثلثين لرب النخل جاز عليه لما قلنا ولو وكله أن يأخذ هذه الأرض هذه السنة وبذرا معها مزارعة فأخذ الوكيل البذر والأرض على أن الخارج كله لرب الأرض وعليه للمزارع كر حنطة وسط - فهذا جائز ، كان البذر من حنطة أو من غيرها ; لأن ما باشره من العقد أنفع للموكل فإنه يستوجب الأجر بتسليم النفس وإن لم يستعمله أو أصاب الزرع آفة ، وإن شرط الآخر دراهم أو متاعا بعينه لم يجز ، وإنما استحسن إذا شرط له شيئا مما تخرجه الأرض إن أجره لما بينا في الفصل الأول . ولو
أمره أن يأخذها له بالثلث - والمسألة بحالها - لم يجز في شيء من ذلك ; لأنه نص على عقد الشركة في الخارج هنا ; ولأنه لا يدري أن ثلث الخارج يكون مثل ما شرط له من الأجر أو أقل أو أكثر . ولو
وكله أن يأخذ هذا النخل معاملة فأخذه على أن الخارج لصاحب النخل وللعامل كر من تمر فارسي عليه - جاز ; لأنه اشترط له أفضل ما يخرج من النخل ، وهذا العقد أنفع له من الوجه الذي قلنا .
وإن كان شرط له كرا من دقل جيد نظر في النخل ، فإن كان ذلك دقلا جاز ، وإن كان فارسيا لم يجز ذلك على العامل ، بمنزلة ما لو شرط له كرا من حنطة أو شعير أو درهما ، وذلك لا ينفذ عليه إلا أن يرضى به ; لأن تعيينه النخل في المعاملة يكون تنصيصا على أن يكون أجره من جنس ما يخرج ذلك النخل . ولو
وكله بأن يأخذ له نخل فلان معاملة بالثلث فأخذه بكر تمر فارسي جيد لم يلزم العامل إلا أن يشاء ; لأنه لا يدري لعل الثلث أكثر مما شرط له ، فإن كان يعلم أن الثلث يكون أقل من ذلك فهو جائز ; لأنه متيقن بتحصيل مقصوده . فإن قيل : قد قلتم إنه أمر بعقد الشركة بهذا اللفظ وما أتى به من الإجارة غير الشركة - قلنا : نعم . ولكن الأسباب غير مطلوبة بعينها بل بمقاصدها ، فإنما يعتبر اختلاف السبب إذا لم يعلم بأنه حصل مقصوده الذي نص عليه على وجه هو أنفع له ، فأما إذا علمنا ذلك يقينا فلا معنى لاعتبار الاختلاف في السبب ; فلهذا ينفذ تصرفه عليه . والله أعلم .