صفحة جزء
ولو أكرهه بالحبس على أن يهب ماله لهذا ، أو يدفعه إليه ، وأكره الآخر بالحبس على قبوله ، وقبضه ، فهلك ، فالضمان على القابض ; لأنه قبضه على وجه التملك ، وفعله في القبض مقصور عليه [ ص: 82 ] فإنه غير ملجأ من جهة المكره ، فلهذا كان الضمان عليه دون المكره ، ولو كان أكره القابض بوعيد تلف على ذلك لم يضمن القابض ، ولا المكره شيئا .

أما القابض ، فلأنه ملجأ إلى القبض ، وذلك بعدم الفعل الموجب للضمان في حقه ، وأما المكره ، فلأن الدافع لم يكن ملجأ في دفع المال إليه ; لأنه كان مكرها بالحبس ، فبقي حكم الدفع مقصورا على الدافع قاله أبو حازم رحمه الله ، وهذا غلط ; لأن فعل الدافع إن لم يكن منسوبا إلى المكره ، ففعل القابض صار منسوبا إليه ، وإنما قبضه بغير رضا المالك ، فكأن المكره قبضه بنفسه ، فينبغي أن يكون المكره ضامنا من هذا الوجه ، وما قاله في الكتاب أصح ; لأن هذا القبض متمم للهبة ، وفي مثله لا يصلح المكره آلة للمكره ( ألا ترى ) أن المكره لو قبضه بنفسه لا تتم الهبة به ، ثم الموجب للضمان على المكره تفويت اليد على المالك ، وذلك بالدفع ، والإخراج من يدهما لا بالقبض ; لأن الأموال محفوظة بالأيدي ، وفعل الدافع لم يصر منسوبا إلى المكره ، ولو أكره الواهب بتلف ، وأكره الموهوب له بحبس كان لصاحب المال أن يضمن - إن شاء - المكره ، - وإن شاء - القابض ; لأن فعل الدافع منسوب إلى المكره لكونه ملجأ من جهته ، فيكون المكره ضامنا له ، وفعل القابض مقصور عليه ; لأنه كان مكرها على القبض بالحبس ، وقد قبضه على وجه التملك ، فكان للدافع أن يضمن أيهما شاء ، فإن ضمن المكره رجع به على القابض لما قلنا ، وكذلك في البيع إذا أكره البائع بوعيد تلف على البيع ، والتقابض ، وأكره المشتري على ذلك بالحبس ، فتقابضا ، وضاع المال ، فلا ضمان على البائع فيما قبض بعد أن يحلف ما قبضه إلا ليرده على صاحبه ; لأنه ملجأ قبل القبض ، فيكون مقبول القول في أنه قبضه للرد مع يمينه ، وللبائع أن يضمن المكره قيمة عبده ; لأنه كان ملجأ إلى تسليم العبد من جهته ، ثم يرجع بها المكره على المشتري لما بينا أن البيع لم ينفذ من جهة المكره ، وقد ملكه بالضمان .

فإن شاء البائع ضمنها المشتري ; لأن فعله في القبض مقصور عليه ، وقد قبضه على وجه التملك ، وإن لم يكن راضيا بسببه ، ثم لا يرجع المشتري على المكره بالقيمة ، ولا بالثمن أما القيمة ، فلأنه إنما ضمنها بقبض كان هو فيه عاملا لنفسه ، وأما الثمن ، فلأنه كان مكرها على دفع الثمن بالحبس ، وذلك لا يوجب نسبة الفعل إلى المكره في حكم الضمان ، وفي هذا طعن أبو حازم رحمه الله أيضا كما في الهبة ، ولو كان أكره البائع بالحبس ، وأكره المشتري بالقتل ، فلا ضمان للبائع في العبد على المشتري ، ولا على المكره ; لأن المشتري ملجأ إلى القبض ، فلا يكون ضامنا شيئا ، والبائع ما كان ملجأ إلى الدفع من جهة المكره ، فيقتصر [ ص: 83 ] حكم الدفع عليه ، فلهذا لا ضمان على المكره ، وللمشتري أن يضمن الثمن - إن شاء - البائع - وإن شاء - المكره لأنه كان ملجأ إلى دفع الثمن من جهة المكره ، وكان البائع غير ملجأ إلى قبضه ، فاقتصر حكم فعله بالقبض عليه ، وللمشتري الخيار ، فإن ضمن المكره رجع به على البائع ; لأنه قام مقام من ضمنه ، ولأنه ملك المضمون بالضمان ، ولم ينفذ البيع من جهة من تملك الثمن ، فرجع على البائع بالثمن ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية