( قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد رحمه الله ) ورضي عنه وعن أسلافه : اعلم بأن الجناية اسم لفعل محرم شرعا سواء حل بمال أو نفس ، ولكن في لسان الفقهاء يراد بإطلاق اسم الجناية الفعل في النفوس والأطراف ، فإنهم خصوا الفعل في المال باسم وهو الغصب والعرف غيره في سائر الأسامي ، ثم الجناية على النفوس نهايتها ما يكون عمدا محضا ، فإنها من أعظم المحرمات بعد الإشراك بالله - تعالى - قال الله - تعالى - : {
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } ، فقد جعل قتل نفس واحدة كتخريب العالم أن لو كان ذلك في وسع البشر .
وإنما جعله كذلك لأن الواحد يقوم مقام الجماعة في الدعاء إلى الدين وفي الإعانة لكل من استعان به ، فإن التعاون بين الناس ظاهر فالذي يقتل الواحد يكون قاطعا لهذه المنفعة وأيد هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=47267لزوال الدنيا أهون على الله - تعالى - من قتل امرئ مسلم } وقال عليه السلام : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=81543سباب المؤمن فسق وقتاله كفر } ، وهذا وإن كان تأويله قتاله لإيمانه فظاهره يدل على عظم الجناية في قتل المسلم ولهذا كان
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنه لا يرى التوبة للقاتل العمد ولم يؤخذ بقبوله حتى روي أن رجلا سأله فقال ما تقول في من يقتل مؤمنا متعمدا فقال جزاؤه " جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما " ، فقال : إلا من تاب وعمل صالحا ثم اهتدى ، فقال : وأنى يكون له الهدى ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {
nindex.php?page=hadith&LINKID=119183يؤتى بقاتل العمد يوم القيامة عند عرش الرحمن والمقتول متعلق به ويقول يا رب سل هذا فيم قتلني وفي ذلك نزل قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } وما نسخها شيء بعد نبيكم } .
ولعظم الجناية في قتل العمد لم ير علماؤنا الكفارة على قاتل العمد ; لأن الوعيد المنصوص عليه لا يرتفع بالكفارة والذنب فيه أعظم من أن ترفعه الكفارة ويستوي فيه إن كان عمدا يجب فيه القصاص أو لا يجب كالأب إذا قتل ابنه عمدا ، والرجل إذا قتل من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا عمدا .
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي يوجب الكفارة باعتبار القتل ولكن لا يقول إن ما لحقه من المآثم يرتفع بالكفارة وكيف يقول ذلك والوعيد منصوص - عنده - عليه ؟ ، واستدل لإيجاب الكفارة
[ ص: 85 ] بالقتل بقوله - تعالى - : {
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } والمراد
إيجاب الكفارة بالقتل لا بصفة الخطأ ; لأنه عذر مسقط وربما يقول المراد بالخطأ ما يضاد الصواب ، قال الله - تعالى - : {
إن قتلهم كان خطأ كبيرا } أي ضد الصواب ، ويقال فلان أخطأ في مسألة كذا إذا لم يصب والعمد ضد الصواب فتتناوله الآية والدليل عليه قوله تعالى : {
فإن كان من قوم عدو لكم } الآية ، وإنما يقتل المرء عدوه عمدا فعرفنا أن المراد إيجاب الكفارة بقتل العمد ، وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=105واثلة بن الأسقع : قال {
nindex.php?page=hadith&LINKID=81545أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا أوجب القتل بالنار فقال عليه السلام اعتقوا عنه رقبة يعتق الله - تعالى - بكل عضو منها عضوا منه من النار } وإيجاب النار إنما يكون بقتل العمد والمعنى فيه أنه قتل آدمي مضمون فيكون موجبا للكفارة كالخطأ وشبه العمد ، وهذا على أصله صحيح ; لأن إثبات الكفارة بالقياس جائز والزيادة على النص بالقياس جائزة عنده وقياس المنصوص على المنصوص مستقيم عنده وشيء من ذلك لا يجوز عندنا صحيح علينا نفصل الخطأ على طريق الاستدلال ، وهو أن الكفارة إنما وجبت على الخاطئ ; لأنه نقص بفعله من عدد المسلمين أحدهم ممن كان يحضر الجمعة والجماعات فعليه إقامة نفس مقامها وليس في وسعه ذلك بطريق الإحياء فألزمه الشرع ذلك بطريق التحرير ; لأن الحرية حياة والرق تلف في حق أحكام الدنيا ، وفي هذا المعنى العامد والمخطئ سواء .
وحجتنا في ذلك قوله تعالى : {
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } فلهذا يقتضي أن يكون المذكور في الآية جميع أجزائه ولو أوجبنا عليه الكفارة لكان المذكور بعض جزئه فيكون فسخا لهذا الحكم ولا وجه لحمل الآية على المستحل ; لأن المذكور في الآية جزاء قتل العمد وإذا حمل على المستحل كان المذكور جزاء لرده ، وتبين بهذه الآية أن المراد بقوله : {
ومن قتل مؤمنا خطأ } الخطأ الذي هو ضد القصد ; لأنه عطف عليه العمد ولا يعطف الشيء على نفسه ولأنه قابله بالعمد ومتى قوبل الخطأ بالعمد فالمراد ما يضاد القصد قال الله - تعالى - : {
وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } ولأنه استثنى الخطأ من التحريم بقوله " إلا خطأ " والاستثناء من التحريم إباحة ، فلو حمل هذا على ضد الصواب أدى إلى أن يكون القتل الصواب هو المحرم ، وهذا محال فعرفنا أن المراد الخطأ الذي هو ضد القصد ، فإن أصل ذلك الفعل غير محرم لكونه رمى إلى قصد الصيد أو الحربي لكنه باتصاله بالمحل المحترم يصير محرما ولكن لا يلحقه إثم نفس الفعل لكونه موضوعا عنه كما قال - تعالى - : {
ولا جناح عليكم فيما أخطأتم به } ، وإنما يلحقه به نوع مأثم بسبب ترك التحرز .
والكفارة
[ ص: 86 ] تلزمه لمحو ذلك الإثم والإثم في حق قاتل العمد ليس من ذلك الجنس حتى تمحوه الكفارة ، ثم إن الله - تعالى - ذكر أنواع قتل الخطأ ما يكون منه بين المسلمين وما يكون في دار الحرب لقوله تعالى : {
فإن كان من قوم عدو لكم } أي في قوم عدو لكم وما يكون في حق
أهل الذمة لقوله : {
وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } ونص على إيجاب الكفارة في كل نوع ، ففيه إشارة إلا أنه لا مدخل للقياس فيه إذ لو كان للقياس مدخل لنص على الكفارة في نوع من الخطأ ليقاس عليه سائر الأنواع وقال عليه السلام : {
خمس من الكبائر لا كفارة فيهن ومن جملتها قتل نفس بغير حق } والمشهور من حديث
واثلة : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=81547أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا قد أوجب النار } فيحتمل أن ذلك بسبب آخر غير القتل ولإن صح قوله بالقتل فهو محمول على القتل بالحجر والعصا الكبير ، ثم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم التطوع بالإعتاق عنه .
( ألا ترى ) أنه خاطب به غير القاتل ، والكفارة لا تجب على غير القاتل والمعنى فيه أن هذا محظور محض فلا يكون سببا لإيجاب الكفارة كالزنا والسرقة وتفسير الوصف أنه حرام ليس فيه شبهة الإباحة ، وتأثيره أن الكفارة دائرة بين العبادة والعقوبة فسببهما ما يكون دائرا بين الحظر والإباحة فكما أن المباح المحض ، وهو القتل بحق لا يصلح سببا للكفارة فكذلك المحظور المحض ، وإنما السبب القتل الخطأ ; لأنه باعتبار أصل الفعل مباح وباعتبار المحل الذي أصابه محظور فكان جائزا وشبه العمد كذلك ، فإن القصد التأديب ، والتأديب مباح .
والقتل بالحجر الكبير عند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ليس بمحظور محض أيضا من حيث إن الآلة باعتبار جنسها ليس بآلة القتل فتتمكن فيه الشبهة ولهذا لم يجعله موجبا للقود ، ولا يدخل على هذا قتل الأب ابنه عمدا ، فإنه محظور محض ، وإنما لم يكن موجبا للقصاص لانعدام الأهلية فيمن يجب عليه وكذلك
قتل المسلم الذي لم يهاجر إلينا محظور محض ، وإنما لا يكون موجبا للضمان لانعدام الإحراز بالدار وبه لا تخرج الفعل من أن يكون محظورا محضا ، وكذلك
المسلم يقتل المستأمن عمدا ، فإن الفعل محظور محض ، وإنما لم يجب القصاص به لانعدام تمام الإحراز .
ثم قد بينا أنه لا مدخل للقياس في هذه المسألة عندنا من الوجوه الذي بيناها ، وكلامه على طريق الاستدلال ممنوع ، فإن الكفارة وجبت عندنا بطريق الشكر ; لأن الشرع لما عذره بالخطأ وسلم له نفسه فلم يلزمه القصاص مع تحقق الفعل منه كان عليه أن يقيم نفسا مقام نفسه شكرا لله - تعالى - وذلك في أن يحرر شبحا ليتفرغ لعبادة الله - تعالى - فإذا عجز عن ذلك شغل نفسه بعبادة
[ ص: 87 ] الله فصام شهرين متتابعين ، وهذا المعنى لا يوجب في حق العامد ، فإن الشرع ألزمه القصاص وما سلم له نفسه .
والدليل على أن المعنى ليس ما قلتم أنه لو قتل مستأمنا أو ذميا خطأ يلزمه الكفارة أيضا وما نقص بفعله من عدد المسلمين أحدهم . يوضحه أن في نفس المقتول حرمتان والمال في الخطأ وجب باعتبار حرمة صاحب النفس فقط فتجب الكفارة باعتبار حرمة حق الله - تعالى - .
فأما في العمد الواجب هو العقوبة ، ولا تجب العقوبة إلا باعتبار الحرمتين جميعا ; لأن الفعل ما لم يكن موجبا للعقوبة إنما يكون حراما لعينه لمجموع الحرمتين فلا يمكن إثبات الكفارة مع ذلك في أحكام الدنيا .