باب
الوصية إذا لم يقبلها الموصى له ( قال رحمه الله ) : قد بينا أنه لا حكم لقبول الموصى له ورده في حياة الموصي ; لأن أوان وجوب الوصية ما بعد موته ، ولا معتبر بالقبول والرد قبل أوانه ، فإذا مات الموصي فإن قبل الموصى له الوصية فالملك له في الموصى به قبضه أو لم يقبضه ; لأن بمجرد القبول يلزم العقد على وجه لا يملك أحد إبطاله فيثبت حكمه ، وهو الملك بخلاف الهبة بعد القبول قبل القبض ، إن رد الموصى له الوصية بطلت برده عندنا وفي قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي لا تبطل ، وهو إحدى الروايتين عن
nindex.php?page=showalam&ids=15922زفر ; لأن الملك بالوصية بمنزلة الملك بالإرث على معنى أنه عقب الموت ، ثم الإرث لا يرتد برد الوارث فكذلك الوصية وهذا ; لأن الملك هاهنا يثبت بطريق الخلافة ، وهو أن الموصى له صار خلفا عن الموصي في ملك الموصى به كالوارث في التركة وجه قول علمائنا رحمهم الله أن هذا تمليك المال بالعقد فلا يثبت إلا بالقبول أو مما يقوم مقامه كالتمليك لسائر العقود ، وهذا ; لأن الملك يثبت للموصى له ابتداء ; ولهذا لا يرد بالعيب ، ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصي ، والملك المتجدد يستدعي شيئا مبتدأ ، وأحد لا يملك تتميم سبب الملك لغيره بغير رضاه بخلاف الميراث ، فإنه يبقى للوارث الملك الذي كان ثابتا للمورث حتى يرده بالعيب ، ولا يصير مغرورا فيما اشتراه المورث ، والبقاء لا يستدعي سببا مبتدأ أو لأن أحدا لا يثبت له على غيره ; ولأنه إدخال الشيء في ملكه قصدا من غير اختياره وفي الميراث الملك ثبت من غير اختيار من المورث ( ألا ترى ) أنه لو أراد أن يمنعه لا يتمكن من ذلك ، وللشرع هذه الولاية ، فأما ما هنا فإن الملك يثبت بإيجاب الموصي بدليل أن له أن يمنعه من ذلك بالرجوع عن الوصية قبل موته ، ولا يثبت إلا بالقبول من الموصى له لانعدام ولاية الموصي عليه ; ولأن تنفيذ الوصية لمنفعة الموصى له .
ولو أثبتنا الملك له قبل قبوله تضرر به ، فإنه لو أوصى له بعبد أعمى تجب عليه نفقته إذا أثبت الملك له .
ولو
أوصى بدنان مسكرة أو بزبل اجتمعت في داره .
ولو ثبت الملك له بغير قبوله وجب عليه نقلها شاء أو أبى ، وفي هذه من الضرر عليه ما لا يخفى ، وكذلك لو أوصى له بآنية أو بمملوك له ذي رحم محرم منه أو مملوك قد حلف بعتقه إن ملكه ، لو دخل في ملكه
[ ص: 48 ] من غير قبوله لكان يعتق عليه ويلزمه ، ولاؤه وليس لأحد أن يلزمه الولاء من غير اختياره .
ولو
أوصى له بزوجته أو ملكها بدون قبوله نفذ نكاحه وليس للموصي ولاية إفساد نكاحه ; فلهذا قلنا بأنه لا يثبت له الملك ما لم يقبل ، وكذلك إن أوصى بأم ولده فما لم يقبلها لا تصير أم ولد له فإن لم يعلم الموصى له بالوصية بعد موت الموصي حتى مات ففي القياس ورثته بمنزلته لا يجبرون على القبول ، وهو إحدى الروايتين عن
nindex.php?page=showalam&ids=15922زفر رحمه الله ; لأن الورثة إنما يخلفونه بالقيام في الملك الذي كان ثابتا له في حياته وها هنا الملك ما كان ثابتا له في حياته قبل قبول الوصية ، إنما كان الثابت له حق القبول ، وهو حق متأكد لا يملك غيره إبطاله فيقوم وارثه فيه مقامه فلا يثبت الملك ما لم يقبل الوارث وهذا لأن موت الموصى له مناف للوصية لا متمم لها .
( ألا ترى ) أنه لو مات في حياة الموصي بطلت الوصية ، وها هنا الوصية ما كانت تامة قبل موته ويستحيل أن يكون الموت الذي هو المنافي متمما للوصية ولكنا ندع القياس في هذا ، ونجعلها من مال الموصى له استحسانا حتى إذا كانت أم ولده تعتق ، وإذا كانت غير أم ولده تصير مملوكة لورثته ; لأن سبب الملك قديم من جهة الموصي على وجه لا يتمكن هو ، ولا من يقوم مقامه من إبطاله ، إنما بقي حق الرد للموصى له ، وذلك يبطل بموته كالمشتري إذا شرط الخيار لنفسه ، ثم مات في مدة الخيار تم الملك ; لأن الثابت له حق الرد ، ولم يبق بعد موته فيتم الملك ، فهذا مثله وهذا ; لأن حق الرد إنما كان ثابتا له لحاجته إلى دفع الضرر عن نفسه ، وقد انتهت حاجته بموته ، ولو كان الموصى له حيا لم يعلم بالوصية ، وكان يطؤها بالنكاح حتى ولدت له أولادا ، ثم علم بالوصية فهو بالخيار ; لأن إقدامه على وطئها قبل العلم بالوصية لا يكون دليل القبول والرضا منه بالوصية ، والنكاح كان قائما بينهما قبل القبول وحل الوطء ثابت له بحكم النكاح ; فلهذا نفى خياره في القبول إذا علم بالوصية ، فإن قبلها كانت أم ولد له ; لأنه ملكها ، وله منها ولد ثابت النسب ، وأولاده أحرار إن كانوا يخرجون من الثلث ; لأنهم حدثوا بعد تمام الوصية من جهة الموصي ، وبعد تمام السبب الموجب للملك قبل ثبوت الملك فكانوا بمنزلة الولد الحادث في مدة الخيار إذا تم الملك للمشتري ، إن رد الوصية فهي وأولادها للورثة والنكاح بينه وبينها قائم ، ونسب الأولاد منه ثابت .
ولو
أوصى رجل لرجلين بثلثه فرد أحدهما الوصية بعد موته كان للآخر حصته من الوصية إذا قبل ; لأن في حق الراد منهما بطلت الوصية برده ولو بطلت بسبب آخر بأن كان وارثا جاز في حصة الآخر فكذلك إذا بطلت برده وهذا ; لأن الشيوع لا يمنع صحة الوصية بخلاف الهبة
[ ص: 49 ] فإن القسمة مشروطة في الهبة ليتم القبض ، والقبض ليس بشرط لوقوع الملك في الوصية ، وإذا أوصى رجل بوصية فقبلها بعد موته ، ثم ردها على الورثة فرده جائز إذا قبلوا ذلك ; لأن الرد عليهم فسخ للوصية ، وهم قائمون مقام الميت ، ولو تصور منه الرد على الميت كان ذلك صحيحا إذا قبله ، فكذلك إذا ردها على الورثة الذين يقومون مقامه ، وهذا ; لأن فسخ العقد معتبر بالعقد فإذا كان أصل هذا العقد يتم بالإيجاب ، والقبول كذلك يجوز فسخه بالتراضي وبهذا فارق الصدقة والهبة فإن ذلك ابتداء التمليك والشيوع فيما يحتمل القسمة مع صحته ، وهذا فسخ الوصية والشيوع لا يؤثر في فسخ الوصية كما لا يؤثر في أصل الوصية ، إن ردها على بعض الورثة دون البعض ففي القياس هذا باطل ; لأن هذا تمليك منه لمن ردها عليه فيكون التملك بلفظ الهبة والإعطاء ، ولكنا نستحسن فنجعل ذلك كالرد على جماعتهم ، وكان بينهم على فرائض الله تعالى ; لأن أصل العقد كان بينه وبين الموصي ، والرد فسخ لذلك العقد فيجوز بينه وبين الموصي أيضا ، وأحد الورثة يقوم مقام الورثة في حقوقهم كجماعتهم ، فكان الرد على أحدهم بمنزلة الرد عليهم أو هذا فسخ لقبوله ، وهو ينفرد بفسخ القبول في حق نفسه ، إنما كان لا يثبت في حق الورثة إذا أبوا ذلك دفعا للضرر عنهم ، وعن مورثهم فإذا رضوا بذلك أو رضي به أحدهم ، وهو قائم مقامهم في فسخ القبول منهم ، وصار كأنه رده قبل أن يقبل فيكون ميراثا للورثة ، وكذلك لو كان على الميت دين فوهبه الطالب للورثة أو لبعضهم فهو هبة لهم كلهم كأنه وهبه للميت ; لأن أصل المنفعة بهذه الهبة للميت ، وأنه يبرئ ذمته لها ، وأحد الورثة يقوم مقامه فيما هو من حقه .
ولو
أوصى له بخادم ، ثم مات الموصي فوهب إنسان للخادم ألف درهم ، والخادم هي الثلث ، ثم قبل الموصى له الوصية فله الخادم وثلث الألف ; لأن السبب من جهة الموصي قديم لكن لم يثبت الملك للموصى له لانعدام القبول منه ، والكسب الحادث بعد تمام السبب يثبت فيه حكم السبب فإذا قبل فله الخادم وثلث الألف ; لأنه لو خرج جميع الألف من الثلث سلمت له فكذلك يسلم له ثلثها ، وكذلك لو ولدت ولدا فإن هلك بعض المال فله الخادم من الثلث فإن بقي شيء من الثلث فله ذلك من الولد ، والهبة في قول
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رحمه الله وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبو يوسف nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد الثلث من الخادم وولدها ، وما وهب لها بالحصة لا يقدم شيء من ذلك على شيء ; لأن حدوث ذلك بعد تمام السبب ، وقبل تمام الملك بمنزلة المقترن بأصل السبب .
( ألا ترى ) أن المبيعة قبل القبض إذا ولدت جعل الولد كالموجود عند العقد في اقتسام الثمن عند القبض
[ ص: 50 ] فكذلك هاهنا .
ولو كان جميع ذلك موجودا عند العقد ، وأوصى بالكل كأن يسلم للموصى له بالثلث من الكل بالحصة والدليل عليه أن التركة بعد الموت قبل القسمة مبقاة على حكم الميت وكذلك الموصى به بعد الموت وقبل القبول ثبوت حكم الوصية في الولد والكسب ليس بطريق التبعية ; لأن حكم التبعية لا يبقى بعد الانفصال ، ولا تعتبر السراية ; لأن السراية إلى غير متولد من الأصل لا تكون ، والكسب غير متولد من الأصل فعرفنا أن ثبوت الحكم في الولد ، والكسب باعتبار أنه يجعل كالموجود ويصير كأن الوصية تناولته قصدا
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة يقول : الجارية هي المقصودة بالوصية والكسب والولد تبع فإنما يبدأ من محل الوصية ما هو المقصود بالوصية ; لأن استقرار الحكم يكون في محله فيكون هو فيما هو المقصود وبيان ذلك أن وجوب الوصية بالموت وعند الموت الموجود أم فقط ، والموجب إنما أوجب الوصية فيها ، ثم يثبت حكم الوصية فيما يحدث من الكسب ، والولد بعد ذلك بطريق التبعية والانفصال لا ينافي التبعية .
( ألا ترى ) أن ولد المبيعة قبل القبض يكون مملوكا تبعا ولهذا لا يمنع رد الأصل بالعيب والدليل عليه أن حكم الوصية لا يثبت في الكسب ، والولد الحادث قبل موته ; لأن ثبوت الحكم بطريق التبعية لا يكون إلا بعد ثبوته في الأصل فإذا ثبت هذا فنقول : الوصية فيما زاد على الثلث أضعف من الوصية بالثلث وما يثبت حكم الوصية فيه تبعا يكون أضعف مما يثبت حكم الوصية فيه مقصودا فيتعين للقوي محل أقوى وللضعيف محل يليق به .
يوضحه : أنا لو أخذنا بما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبو يوسف nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد أدى إلى أن تبطل الوصية في الأصل لمكان البيع فإنه إذا كان الثلث بقدر قيمتها قبل أن تلد يجب تنفيذ الوصية في جميعها ، ثم إذا ولدت ولدا قيمته مثل قيمتها تنفذ الوصية في نصف الأم ونصف الولد أو في ثلثي الأم وثلثي الولد فيؤدي إلى أن تبطل الوصية في بعض الأصل لأجل تنفيذ الوصية في التبع ، ولا يجوز أن يكون التبع مبطلا للحكم الثابت في الأصل بحال والله أعلم .