( تنبيهات الأول )
ركوب البحر على ثلاثة أقسام كما صرح به
اللخمي وابن بشير وابن معلى وغيرهم جائز في حق من يعلم من نفسه أنه لا يميد ولا يضيع الصلاة وممنوع في حق من يعلم من نفسه تضييع الصلاة ومكروه في حق من يشك في ذلك قال
ابن بشير في كتاب الصلاة فصل : وركوب البحر للأسفار مباح على الجملة ما لم يعرض عارض يمنع من ركوبه ومن العوارض الإخلال بالصلاة للميد فمن علم من حاله أنه يميد حتى تفوته الصلاة في أوقاتها أو لا يقدر على أدائها جملة فإن المنصوص من المذهب أنه لا ينبغي له ركوبه ولا إلى حج أو جهاد وهذا لأنه يطلب فرضا فيضيع فروضا آكد منه وإن كان يقدر على الأداء بإخلال فرض من فروض الصلاة والانتقال عنه إلى بدل كمن يعلم أنه لا يصلي قائما هذا إن وجد عنه مندوحة لم يركب وإن لم يجد فقد يختلف فيه على الخلاف في القياس على الرخص فمن قال به أجاز ركوبه كما له أن ينتقل عن طهارة الماء إلى التراب في السفر في المفازات وإن حمله على ذلك مجرد طلب الدنيا ومن منع القياس عليها منعه إذا أدى للإخلال ببعض الفروض وإن شك في أمره هل يسلم من الميد أم لا فقد قالوا : يكره له الركوب ولا يمنع لأن الأصل السلامة والقدرة على الأداء انتهى . وقوله كما له أن ينتقل عن طهارة الماء إلى التراب في السفر قال
ابن ناجي في شرح المدونة وقد يفرق بينهما بأن الطهارة شرط والقيام ركن والشرط خارج والركن داخل وفيه نظر انظره في كتاب الصلاة الثاني .
وقوله فيما إذا علم أنه يميد لا ينبغي فيه مسامحة بل لا يجوز كما سيأتي وقال
ابن معلى : لا يخلو راكب البحر إما أن يعلم أنه يميد بحيث لا يصلي فيمنع أو لا فيجوز أو يشك فقولان : الجواز والكراهة قال بعض المتأخرين : والأظهر الكراهة ثم ذكر كلام
ابن بشير فيما إذا كان يصلي قاعدا وقال إثره : قال بعض حذاق المتأخرين أما لو صلى مضطجعا فلا قياس لأن الاضطجاع بدل عن القعود الذي هو بدل عن القيام انتهى . وقال
البرزلي في مسائل
ابن قداح : من غلب على ظنه أنه يميد في البحر لم يجز له السفر فيه
البرزلي معناه أنه يؤدي إلى ترك الصلاة أو سقوط بعض أركانها انتهى . وقال
اللخمي في كتاب الصلاة : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : يكره ركوب البحر لما يدخل على الإنسان من نقص في صلاته وغير ذلك
الشيخ يعني نفسه
ركوب البحر على ثلاثة أوجه : جائز إذا كان يعلم من شأنه أنه يأتي بفرضه قائما ولا يميد ، ومكروه إذا لم تتقدم له عادة بركوبه ولا يعلم إذا ركبه هل يميد فتبطل صلاته أم لا ولا يقال أنه ممنوع لأن الغالب
[ ص: 516 ] السلامة وممنوع إذا كان يعلم من نفسه أنه يميد ولا يقدر على أداء الصلاة أو كان لا يقدر على أدائها لكثرة الركاب أو لا يقدر على السجود ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك في سماع
nindex.php?page=showalam&ids=12321أشهب : إذا
لم يقدر أن يركع أو يسجد إلا على ظهر أخيه فلا يركب لحج ولا لعمرة أيركب حيث لا يصلي ويل لمن ترك الصلاة ويكره إذا كان لا يقدر على الصلاة إلا جالسا وقال في المبسوط : من
أراد ركوب البحر وقت صلاة الظهر فأراد أن يجمع الظهر والعصر قبل أن يركب قائما لما يعلم من شدة البحر وأنه لا يصلي فيه قائما قال : يجمعهما في البر قائما أحب إلي من أن يصليها في وقتها قاعدا ، وقال في العتبية : إذا لم يقدروا على القيام قعدوا ولا بأس أن يؤمهم أحدهم ويحمل قوله في هذين السؤالين على ما يفعله من ركب أو عزم على ركوبه ليس على ما يختاره لهم من الركوب أو الترك انتهى . وما ذكره عن المبسوط يوافق ما قاله : إنه يكره ركوبه لمن لا يقدر أن يصلي فيه إلا جالسا وأما ما ذكره عن العتبية فيمكن أنه بعد الوقوع والنزول فلا يدل على الحكم ابتداء وهو في رسم سلعة سماها من سماع
ابن القاسم من كتاب الصلاة ونصه : وسئل عن
الصلاة في السفينة قائما أو قاعدا قال : بل قائما فإن لم يستطيعوا فقعودا قيل : ويؤمهم قعودا ؟ قال نعم إذا لم يستطيعوا أن يقوموا ، قال
القاضي وهو كما قاله لأن القيام في الصلاة من فروضها فلا يجوز أن يصلي جالسا من يستطيع القيام فإن لم يستطيعوا كانوا كالمرضى وجاز أن يؤمهم الإمام قعودا وهو قاعد انتهى . وفي سماع
عبد الملك وسئل وأنا أسمع عن
القوم في المركب يصلون جلوسا وهم يقدرون على القيام قال : يعيدون في الوقت وبعده وإن لم يقدروا فلا بأس أن يؤمهم إمامهم وهم جلوس قال
القاضي : وهذا صحيح لأن القيام فرض فمن تركه مع القدرة فلا صلاة له انتهى . وقال
ابن بشير وإن
أمكن من كان في السفينة الخروج إلى الشاطئ خرج إليه فإن أدى الصلاة في السفينة على الإكمال لأن الصلاة بالشاطئ أقرب إلى الخشوع وآمن من طريان المفسد فإن صلى في السفينة وأكمل أجزأته صلاته وإن أخل بفرض مع القدرة على الخروج بطلت صلاته وإن لم يقدر صحت انتهى . وقال في كتاب الصلاة الثاني من المدونة : ومن
صلى في السفينة وهو قادر على الخروج منها أجزأه وأحب إلي أن يخرج منها وإن قدر على القيام فلا يصلي الفريضة فيها قاعدا قال
ابن ناجي : مفهومه من لم يقدر على القيام صلى جالسا
المغربي ونحوه في العتبية ثم وقال في المدونة : ويدورون إلى القبلة كلما دارت السفينة فإن لم يقدروا أجزأتهم صلاتهم انتهى .
قال
ابن رشد في شرح المسألة المتقدمة في كلام
اللخمي عن سماع
nindex.php?page=showalam&ids=12321أشهب : وهذا كما قال لأن السجود من فرائض الصلاة فإذا
علم أنه لا يقدر في السفينة أن يسجد إلا على ظهر أخيه فلا ينبغي له ركوبها في حج ولا عمرة فإن فعل وصلى وسجد على ظهر أخيه أعاد أبدا على قوله لأنه جعل ذلك كترك الصلاة وهو الذي يأتي على مذهب
ابن القاسم في
الذي يقدح الماء من عينه فيصلي إيماء أنه يعيد أبدا ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12321أشهب : لا إعادة عليه وكذا نقول في الذي لا يقدر على الزحام أن يسجد إلا على ظهر أخيه أنه لا يعيد إلا في الوقت وذلك أن الفرض انتقل عنه إلى الإيماء من أجل الزحام فكان كالمريض لا يستطيع السجود فرفع إلى جبهته شيئا فسجد عليه أن ذلك يجزئه وهو عند
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك خلاف المريض يعيد أبدا إن لم يسجد إلا على ظهر أخيه أو إيماء فإن كان مع الإمام فإن لم يقدر على السجود إلا إيماء أو على ظهر أخيه حتى قام الإمام سجد ما لم يعقد الإمام عليه الركعة التي تليها وإن كان ذلك في الركعة الأخيرة سجد ما لم يسلم الإمام أو ما لم يطل الأمر بعد سلامه على الاختلاف في سلام الإمام هل هو كعقد ركعة أم لا انتهى .
( الثاني ) علم من النصوص المذكورة حكم ركوبه ابتداء على التفصيل المتقدم ومن أثناء الكلام حكم ركوبه بعد الوقوع
[ ص: 517 ] مجملا وتحصيله أنه إذا ركب البحر فهو مطلوب بالصلاة فيه على أي حال قدر عليها في الأقسام الثلاثة ثم يختلف الحكم في إعادته بعد ذلك فيما إذا أخل ببعض الأركان ففي القسم الأول الجائز وهو من علم من نفسه السلامة لا شيء عليه إذا طرأ عليه شيء منعه من أداء الصلاة على وجهها ولا يشك في عدم إعادته وهذا ظاهر والظاهر أن حكم القسم الثالث المكروه وهو من شك في أمره كذلك لأنه لم يقدم على الإخلال بالصلاة ولا شيء منها وعليه يحمل ما تقدم عن المدونة والعتبية أنهم إذا لم يقدروا على القيام في السفينة قعدوا وما تقدم في كلام
ابن بشير أن من
صلى في السفينة وأخل بفرض مع قدرته على الخروج إلى البر بطلت صلاته وإن كان لا يقدر صحت وأما القسم الممنوع وهو من يعلم من نفسه تضييع الصلاة فقد تقدم بيان حكمه وأنه يعيد أبدا والله أعلم .
( الثالث ) من كان يعلم من نفسه أنه إذا ركب البحر حصل له ميد يغيب عقله منه ويغمى عليه فيترك الصلاة بالكلية فلا خلاف في عدم جواز ركوبه ومن كان بهذه المثابة فخروجه للحج إنما هو شهوة نفسانية بل نزعة شيطانية ، قال
البرزلي : ولقد حكى شيخنا
أبو محمد الشبيبي عن طالب من المغاربة أنه يقال اختصم شياطين المشرق والمغرب أيهم أكثر غواية فقال شياطين المشرق لشياطين المغرب : نحن أشد منكم غواية لأنا نحمل المرء على المعاصي وارتكاب المحظورات في مقامات الأنبياء عليهم السلام فقال شياطين المغرب : نحن أشد لأنا نجد الرجل في أهله وولده يؤدي الفرائض من الصلاة والزكاة وغير ذلك وهو في راحة وملائكته معه كذلك من قلة التبعات فإذا قال القوال في التشويق إلى أرض
الحجاز ننخسه بسكين فيبكي ونحمله على الخروج فيخرج فمن يوم يخرج نحمله على ترك الفرائض وارتكاب المحظورات من يوم خروجه إلى يوم دخوله إلى أهله فخسر في نفسه وماله ودينه في شرق الأرض وغربها فسلم شياطين المشرق لشياطين المغرب شدة الغواية . قال
البرزلي : وقد شاهدت في سفري للحج بعض هذا انتهى . نسأل الله العافية .
وانظر
إذا حصل له ميد حتى غاب عن عقله بالكلية وخرج وقت الصلاة وهو غائب العقل هل تسقط عنه الصلاة أم لا ؟ والظاهر أنه يجري على ما تقدم ففي الوجه الجائز والمكروه لا قضاء عليه وفي الممنوع يقضي الصلاة وإن خرج وقتها قياسا على السكران بجامع أن كل واحد منهما أدخل على نفسه شيئا يؤدي إلى ترك الصلاة إلا أن يكون الإغماء لمرض غير الميد فتسقط عنه الصلاة والله أعلم .
( الرابع ) إذا ركبه في الوجه الممنوع فهل يطلب بالرجوع ؟ لم أر فيه نصا والظاهر أنه يطلب بالنزول منه من أي موضع أمكنه النزول والله أعلم .
( الخامس ) قال
اللخمي : يترجح البر الموصل من عامه على البحر المباح الموصل في عام آخر على القول بالتراخي ويتعين على القول بالفور فإن تساويا جرى على أيهما أحب انتهى بالمعنى . ونقله
ابن عرفة والتادلي والبرزلي وغيرهم قال
البرزلي إثره : والظاهر رجحان البر بكونه أكثر نفقة ولمرجوحية ركوب البحر من حيث الجملة انتهى .
ويفهم من كلام
اللخمي أنه لو كان البحر أسرع تعين على القول بالفور .