الثاني وأما
شرط الفتوى فقال
ابن سلمون في وثائقه : سئل
ابن رشد في الفتوى وصفة المفتي فقال : الذي أقول به في ذلك إن الجماعة التي تنسب إلى العلوم وتتميز عن جملة العوام بالمحفوظ والمفهوم تنقسم على ثلاث طوائف ، طائفة منهم اعتقدت صحة مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك تقليدا بغير دليل فأخذت أنفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه دون التفقه في معانيها بتمييز الصحيح منها والسقيم ، وطائفة اعتقدت صحة مذهبه بما بان لها من صحة أصوله التي بناه عليها فأخذت أنفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه وتفقهت في معانيها فعلمت الصحيح منها الجاري على أصوله من السقيم الخارج إلا أنها لم تبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول ، وطائفة اعتقدت صحة مذهب بما بان لها أيضا من صحة أصوله لكونها عالمة بأحكام القرآن عارفة بالناسخ والمنسوخ والمفصل والمجمل والخاص من العام عالمة بالسنن الواردة في الأحكام مميزة بين صحيحها من معلولها عالمة بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار وبما اتفقوا عليه واختلفوا فيه عالمة من علم اللسان بما يفهم به معاني الكلام عالمة بوضع الأدلة في مواضعها ، فأما الطائفة الأولى فلا يصح لها الفتوى بما علمته وحفظته من قول
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وقول أحد من أصحابه إذ لا علم عندها بصحة شيء من ذلك إذ لا يصح الفتوى بمجرد التقليد من غير علم ويصح لها في خاصتها إن لم تجد من يصح لها أن تستفتيه أو تقلد
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا أو غيره من أصحابه فيما حفظته من أقوالهم وإن لم يعلم من نزلت به نازلة من يقلده فيها من قول
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك [ ص: 95 ] وأصحابه فيجوز للذي نزلت به النازلة أن يقلده فيما حكاه له من قول
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك في نازلته ويقلد
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا في الأخذ بقوله فيها وذلك أيضا إذا لم يجد في عصره من يستفتيه في نازلته فيقلده فيها .
وإن كانت النازلة قد علم فيها اختلافا من قول
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وغيره فأعلمه بذلك كان حكمه في ذلك حكم العامي إذا استفتى العلماء في نازلته فاختلفوا عليه فيها وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال أحدها أنه يأخذ بما شاء من ذلك والثاني أنه يجتهد في ذلك فيأخذ في ذلك بقول أعلمهم والثالث أنه يأخذ بأغلظ الأقوال وأما الطائفة الثانية فيصلح لها إذا استفتيت أن تفتي بما علمته من قول
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وقول غيره من أصحابه إذا كانت قد بانت لها صحته كما يجوز لها في خاصتها الأخذ بقوله إذا بانت لها صحته ولا يجوز لها أن تفتي بالاجتهاد فيما لا تعلم فيه نصا من قول
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك أو قول غيره من أصحابه وإن كانت قد بانت لها صحته إذ ليست ممن كمل لها آلات الاجتهاد الذي يصح لها بها قياس الفروع على الأصول وأما الطائفة الثالثة فهي التي يصح لها الفتوى عموما بالاجتهاد والقياس على الأصول التي هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة بالمعنى الجامع بينها وبين النازلة ، وعلى ما قيس عليها إن قدم القياس عليها ، ومن القياس جلي وخفي ; لأن المعنى الذي يجمع بين الأصل والفرع قد يعلم قطعا بدليل قاطع لا يحتمل التأويل وقد يعلم بالاستدلال ، فلا يوجب إلا غلبة الظن ولا يرجع إلى القياس الخفي إلا بعد القياس الجلي وهذا كله يتفاوت العلماء في التحقيق بالمعرفة به تفاوتا بعيدا وتفترق أحوالهم أيضا في جودة الفهم لذلك وجودة الذهن فيه افتراقا بعيدا إذ ليس العلم الذي هو الفقه في الدين بكثرة الرواية والحفظ وإنما هو نور يضعه الله حيث يشاء فمن اعتقد في نفسه أنه ممن تصح له الفتوى بما آتاه الله عز وجل من ذلك النور المركب على المحفوظ المعلوم جاز له إن استفتي أن يفتي
وإذا اعتقد الناس فيه ذلك جاز له أن يفتي فمن الحق للرجل أن لا يفتي حتى يرى نفسه أهلا لذلك ويراه الناس أهلا له على ما حكى
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك عن أن
ابن هرمز أشار بذلك على من استشاره السلطان فاستشاره في ذلك وقد أتى ما ذكرناه على ما سألت عنه من بيان صفات المفتي التي ينبغي أن يكون عليها في هذا العصر إذ لا تختلف صفات المفتي التي تلزم أن يكون عليها باختلاف الأعصار .
وأما السؤال عن بيان ما يلزم في مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك لمن أراد في هذا الوقت أن يكون مفتيا على مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك فإنه سؤال فاسد إذ ليس أحد بالخيار في أن يفتي على مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ولا على مذهب غيره من العلماء بل يلزمه ذلك إذا قام عنده الدليل على صحته ولا يصح له إن لم يقم عنده الدليل على صحته والسؤال عن الحكم في أمر القاضي إذا كان ملتزما للمذهب المالكي وليس في نظره من نال درجة الفتوى ولا هو في نفسه أهل لذلك قد مضى القول عليه فيما وصفناه من حال الطائفة التي عرفت صحة مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ولم تبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول وذكر بقية كلامه المتقدم في الفرع الذي قبل هذا .
وقال
ابن عرفة : وأما شرط الفتوى ففيها لا ينبغي لطالب العلم أن يفتي حتى يراه الناس أهلا للفتوى وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15968سحنون : الناس هنا العلماء ، قال
ابن هرمز : ويرى هو نفسه أهلا لذلك قال
القرافي إثر هذا الكلام : وما أفتى
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك حتى أجازه أربعون محنكا ; لأن الحنك وهو اللثام تحت الحنك من شعار العلماء حتى إن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا سئل عن الصلاة بغير حنك فقال : لا بأس بذلك وهذه إشارة إلى تأكيد التحنيك وهذا شأن الفتيا في الزمن المتقدم وأما اليوم فقد خرق هذا السياج وهان على الناس أمر دينهم فتحدثوا فيه بما يصلح وما لا يصلح وعسر عليهم اعترافهم بجهلهم وأن يقول أحدهم لا أدري فلا جرم آلى الحال بالناس إلى هذه الغاية بالاقتداء بالجهال والمتجرئين على
[ ص: 96 ] دين الله تعالى ، انتهى .
( قلت ) وقع هذا في رسم الشجرة من جامع العتبية
لابن هرمز فيما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك عنه وليس فيه ويرى نفسه أهلا لذلك فقال
ابن رشد زاد في هذه الحكاية في كتاب الأقضية من المدونة ويرى نفسه أهلا لذلك وهي زيادة حسنة ; لأنه أعرف بنفسه وذلك أن يعلم نفسه أنه كملت له آلات الاجتهاد وذلك علمه بالقرآن وناسخه ومنسوخه ومفصله من مجمله وعامه من خاصه وبالسنة مميزا بين صحيحها وسقيمها عالما بأقوال العلماء وما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه عالما بوجوه القياس ووضع الأدلة مواضعها وعنده من علم اللسان ما يفهم به معاني الكلام وفي نوازل
ابن رشد أنه سئل عمن قرأ الكتب المستعملة مثل المدونة والعتبية دون رواية أو الكتب المتأخرة التي لا توجد فيها رواية هل يستفتي .
وإن أفتى وقد قرأها دون رواية هل تجوز شهادته أم لا فأجاب من قرأ هذه الكتب وتفقه فيها على الشيوخ وفهم معناها وأصول مسائلها من الكتاب والسنة والإجماع وذكر ما نقلناه عنه في البيان في كلامه السابق ثم قال : فهذا يجوز له أن يفتي فيما ينزل ولا نص فيه باجتهاده ، قال : ومن لم يلحق هذه الدرجة لم يصلح أن يستفتى في المجتهدات التي لا نص فيها ولا يجوز له أن يفتي في شيء منها إلا أن يعلم برواية عن عالم فيقلده فيما يخبر به وإن كان فيها اختلاف أخبر بالذي ترجح عنده إن كان ممن له فهم ومعرفة بالترجيح
( قلت ) وهذا حال كثير ممن أدركناه وأخبرنا عنهم أنهم كانوا يفتون ولا قراءة لهم في العربية فضلا عما سواها من أصول الفقه وقد ولي خطتي قضاء الأنكحة والجماعة
بتونس من قال : ما فتحت كتابا في العربية على أحد ومثله ولي القضاء في أوائل هذا القرن
ببجاية وقد رأيت بعض هؤلاء يقرءون التفسير وأخبرت أن بعضهم كان منعه قاضي وقته فلما مات أقرأه وأفتى
ابن عبد السلام بوجوب منع من لم يكن له مشاركة في علم العربية من إقراء التفسير ثم كان في حضرته من يقرأه بل ولاه محل إقرائه وهو ممن لم يقرأ في العربية كتابا ، والله أعلم .
بحال ذلك كله وفي المقدمات ينبغي للقاضي أن يكون عالما بما لا بد منه من العربية واختلاف معاني العبارات لاختلاف المعاني باختلاف العبارات في الدعاوى والإقرار والشهادات وقال
القرافي : ما حاصله يجوز لمن حفظ رواية المذهب وعلم مطلقها ومقيدها وعامها وخاصها أن يفتي بمحفوظه منها وما ليس محفوظا له منها لا يجوز له تخريجه على ما هو محفوظ له منها إلا إن حصل علم أصول الفقه وكتاب القياس وأحكامه وترجيحاته وشرائطه وموانعه وإلا حرم عليه التخريج ، قال : وكثير من الناس يقدمون على التخريج دون هذه الشرائط بل صار يفتي من لم يحط بالتقييدات ولا التخصيصات من منقول إمامه وذلك فسق ولعب وشرط التخريج على قول إمامه أن يكون القول المخرج عليه ليس مخالفا للإجماع ولا لنص ولا لقياس جلي ; لأن القياس عليه حينئذ معصية ، وقول إمامه ذلك غير معصية ; لأنه باجتهاد أخطأ فيه فلا يأثم وتحصيل حفظ القواعد الشرعية إنما هو بالمبالغة في تحصيل مسائل الفقه بأصولها ، وأصول الفقه لا تفيد ذلك ولذا ألفت هذا الكتاب المسمى بالقواعد قلت قوله ليس مخالفا للإجماع ، لا لنص .
أما الإجماع فمسلم وأما النص فليس كذلك لنص
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك في كتاب الجامع من العتبية وغيره على مخالفة نص الحديث الصحيح إذا كان العمل بخلافه ، انتهى . وكلام
القرافي هذا في الفرق الثامن والتسعين ، وقول
ابن عرفة في أول الكلام : وعلم مطلقها ومقيدها وعامها وخاصها أن يفتي بمحفوظه ، عبارة
القرافي فهذا يجوز له أن يفتي بجميع ما يحفظه وينقله من مذهبه اتباعا لمشهور ذلك المذهب بشروط الفتيا ، انتهى . واختصر
ابن عرفة كلامه فيه جدا ، قال
القرافي في الفرق المذكور : وكل شيء أفتى به المجتهد فوقعت فتياه فيه على خلاف الأصل والقواعد والإجماع والنص والقياس الجلي
[ ص: 97 ] السالم عن المعارض ، الراجح لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس ولا يفتي به في دين الله تعالى فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه وما لا نقره شرعا بعد تقرره بحكم الحاكم أولى أن لا نقره إذا لم يتأكد وهذا لم يتأكد فلا نقره والفتيا بغير شرع حرام فالفتيا بهذا حرام .
وإن كان الإمام المجتهد غير عاص فعلى أهل العصر تفقد مذاهبهم فكل ما وجدوه من هذا النوع يحرم عليهم الفتيا به ولا يعرى مذهب من المذاهب عنه لكنه قد يقل وقد يكثر غير أنه لا يقدر أن يعرف هذا من مذهبه إلا إن عرف القواعد والقياس الجلي والنص الصريح وعلة المعارض لذلك وذلك يعتمد تحصيل الفقه والتبحر في الفقه فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة قواعد كثيرة جدا عند أئمة الفقه والفتوى لا توجد في كتب أصول الفقه أصلا وذلك هو الباعث لي على تصنيف هذا الكتاب لضبط تلك القواعد بحسب طاقتي وباعتبار هذا الشرط يحرم على أكثر الناس الفتيا فتأمل ذلك فإنه أمر لازم ولذلك كان السلف رضي الله عنهم يتوقفون في الفتيا توقفا شديدا ، انتهى .
( قلت ) والظاهر أن قول
القرافي : وعلم مطلقها ومقيدها وعامها وخاصها ، يعني غلب على ظنه أن هذه الرواية مطلقة وهذه مقيدة وأما القطع بأن هذه الرواية ليست مقيدة فبعيد ويكفي الآن في ذلك وجود المسألة في التوضيح أو في
ابن عبد السلام ، قال
ابن فرحون ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=15140المازري في كتاب الأقضية : الذي يفتى به في هذا الزمان أقل مراتبه في نقل المذهب أن يكون قد استبحر في الاطلاع على روايات المذهب وتأويل الشيوخ لها وتوجيههم لما وقع فيها من اختلاف ظواهر واختلاف مذاهب وتشبيههم مسائل بمسائل قد يسبق إلى النفس تباعدها وتفريقهم بين مسائل ومسائل قد يقع في النفس تقاربها وتشابهها إلى غير ذلك مما بسطه المتأخرون في كتبهم وأشار إليه المتقدمون من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك في كثير من رواياتهم فهذا لعدم النظار يقتصر على نقله عن المذهب ، انتهى .
وفي آخر خطبة البيان والتحصيل
لابن رشد ، قال : إذا جمع الطالب المقدمات إلى هذا الكتاب يعني البيان والتحصيل حصل على معرفة ما لا يسع جهله من أصول الديانات وأصول الفقه وعرف العلم من طريقه وأخذه من بابه وسبيله وأحكم رد الفرع إلى الأصل واستغنى بمعرفة ذلك كله عن الشيوخ في المشكلات وحصل في درجة من يجب تقليده في النوازل المعضلات ودخل في زمرة العلماء الذين أثنى الله عليهم في غير ما آية من كتابه ووعدهم فيه بترفيع الدرجات ، انتهى . وقد تقدم في أول المختصر عند قول
المصنف مبينا لما به الفتوى في الكلام على الديباجة بعض هذه النصوص وشيء من هذا المعنى ، والله أعلم .