إسكان آدم الجنة
فلما ظهر للملائكة من معصية إبليس وطغيانه ما كان مستترا عنهم وعاتبه الله على معصيته بتركه السجود لآدم ، فأصر على معصيته وأقام على غيه ، لعنه الله وأخرجه من الجنة وطرده منها وسلبه ما كان إليه من ملك سماء الدنيا والأرض وخزن الجنة ، فقال الله له :
فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ، وأسكن آدم الجنة . ، فما حدث
أباح آدم جميع أشجار الجنة سوى شجرة واحدة ، اختلفوا فيها ، فقيل: هي الحنطة ، وقيل: الكرمة إلى غير ذلك مما قد شرحناه في التفسير .
ومما حدث: ما روى السدي عن أشياخه: لما أسكن آدم الجنة كان يمشي فيها وحشا ليس له زوج ، فنام نومة فاستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ، فسألها: ما أنت؟ قالت امرأة ، قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إلي ، قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ علمه: ما اسمها يا آدم ؟ قال: حواء ، قالوا: ولم سمت حواء ؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي ، فقال الله:
يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة قال قتادة : خلق حواء من ضلع من أضلاعه .
قال مجاهد : خلقت من قصيرى آدم . وقال ابن إسحاق فيما بلغه عن أهل الكتاب وغيرهم ، منهم عبد الله بن عباس قال : ألقى الله تعالى على آدم النوم وأخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما وخلق منه حواء وآدم نائم ، فلما استيقظ رآها إلى جنبه ، فقال : لحمي ، ودمي ، وروحي ، فسكن إليها ، فلما زوجه الله تعالى وجعل له سكنا من نفسه ، قال له :
ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين . وقال في الأعراف :
قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ الأعراف : 18 - 19 ] . وقال تعالى :
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ طه : 116 - 119 ] . وسياق هذه الآيات يقتضي أن
خلق حواء كان قبل دخول آدم الجنة لقوله :
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة . وهذا قد صرح به ابن إسحاق بن يسار ، وهو ظاهر هذه الآيات . الشجرة التي نهى آدم عن الأكل منها وقد اختلف المفسرون في
قوله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة . فقيل هي الكرم . وروى عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من الصحابة قال : وتزعم يهود أنها الحنطة . وقال وهب : والحبة منه ألين من الزبد ، وأحلى من العسل . وعن أبي مالك :
ولا تقربا هذه الشجرة . هي النخلة . وقال ابن جريج ، عن مجاهد : هي التينة . وبه قال قتادة ، وابن جريج . وقال أبو العالية : كانت شجرة من أكل منها أحدث ، ولا ينبغي في الجنة حدث .
وهذا الخلاف قريب . وقد أبهم الله ذكرها وتعيينها ، ولو كان في ذكرها مصلحة تعود إلينا لعينها لنا ، كما في غيرها من المحال التي تبهم في القرآن .
وإنما الخلاف الذي ذكروه في أن هذه
الجنة التي أسكنها آدم ، هل هي في السماء أو في الأرض ؟ هو الخلاف الذي ينبغي فصله والخروج منه . والجمهور على أنها هي التي في السماء ، وهي جنة المأوى ، لظاهر الآيات والأحاديث كقوله تعالى :
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة [ البقرة : 175 ] . والألف واللام ليست للعموم ، ولا لمعهود لفظي ، وإنما تعود على معهود ذهني ، وهو المستقر شرعا من جنة المأوى ، وكقول موسى عليه السلام لآدم عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509658علام أخرجتنا ونفسك من الجنة . الحديث . وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ، وأبو مالك ، عن ربعي ، عن حذيفة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509659يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم ! . وذكر الحديث بطوله ، وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة في الدلالة على أنها جنة المأوى ، وليست تخلو عن نظر .
وقال آخرون بل
الجنة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد ; لأنه كلف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة ، ولأنه نام فيها وأخرج منها ، ودخل عليه إبليس فيها ، وهذا مما ينافي أن تكون جنة المأوى . وهذا القول محكي ، عن أبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، ووهب بن منبه ، وسفيان بن عيينة . واختاره ابن قتيبة في المعارف ، والقاضي منذر بن سعيد البلوطي في تفسيره ، وأفرد له مصنفا على حدة ، وحكاه عن أبي حنيفة الإمام وأصحابه رحمهم الله . ونقله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ابن خطيب الري في تفسيره عن أبي القاسم البلخي ، وأبي مسلم الأصبهاني . ونقله القرطبي في تفسيره عن المعتزلة ، والقدرية . وهذا القول هو نص التوراة التي بأيدي أهل الكتاب . وممن حكى الخلاف في هذه المسألة أبو محمد بن حزم في " الملل والنحل " وأبو محمد بن عطية في تفسيره ، وأبو عيسى الرماني في تفسيره .
وحكى عن الجمهور الأول ، وأبو القاسم الراغب ، والقاضي الماوردي في تفسيره فقال : الجنة التي أسكناها آدم وحواء واختلف في الجنة التي أسكناها يعني آدم وحواء على قولين أحدهما : أنها جنة الخلد . الثاني : جنة أعدها الله لهما ، وجعلها دار ابتلاء ، وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء . ومن قال : بهذا اختلفوا على قولين ; أحدهما : أنها في السماء ، لأنه أهبطهما منها . وهذا قول الحسن ، والثاني : أنها في الأرض ، لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار . وهكذا قول ابن جبير ، وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم ، والله أعلم بالصواب من ذلك ، هذا كلامه .
فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة ، وأشعر كلامه أنه متوقف في المسألة ، ولهذا حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره في هذه المسألة أربعة أقوال ، هذه الثلاثة التي أوردها الماوردي ورابعها : الوقف . ورجح القول الأول . والله أعلم . وحكى القول بأنها في السماء وليست جنة المأوى عن أبي علي الجبائي .
وقد أورد أصحاب القول الثاني سؤالا يحتاج مثله إلى جواب فقالوا : لا شك أن الله سبحانه وتعالى طرد إبليس حين امتنع من السجود عن الحضرة الإلهية ، وأمره بالخروج عنها والهبوط منها ، وهذا الأمر ليس من الأوامر الشرعية بحيث يمكن مخالفته ، وإنما هو أمر قدري لا يخالف ولا يمانع ، ولهذا قال :
اخرج منها مذءوما مدحورا [ الأعراف : 18 ] . وقال :
اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها [ الأعراف : 13 ] . وقال :
اخرج منها فإنك رجيم [ الحجر : 34 ] . والضمير عائد إلى الجنة أو السماء أو المنزلة ، وأيا ما كان ، فمعلوم أنه ليس له الكون بعد هذا في المكان الذي طرد عنه ، وأبعد منه لا على سبيل الاستقرار ، ولا على سبيل المرور والاجتياز . قالوا : ومعلوم من ظاهر سياقات القرآن أنه وسوس لآدم وخاطبه بقوله له :
هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى [ طه : 120 ] . وبقوله :
ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ الأعراف : 20 21 ] . الآية ، وهذا ظاهر في اجتماعه معهما في جنتهما ، وقد أجيبوا عن هذا بأنه لا يمتنع أن يجتمع بهما في الجنة على سبيل المرور فيها لا على سبيل الاستقرار بها ، أو أنه وسوس لهما وهو على باب الجنة ، أو من تحت السماء . وفي الثلاثة نظر ، والله أعلم .
ومما احتج به أصحاب هذه المقالة ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال : إن آدم لما احتضر اشتهى قطفا من عنب الجنة ، فانطلق بنوه ليطلبوه له ، فلقيتهم الملائكة فقالوا : أين تريدون يا بني آدم ؟ فقالوا : إن أبانا اشتهى قطفا من عنب الجنة . فقالوا لهم : ارجعوا فقد كفيتموه فانتهوا إليه فقبضوا روحه ، وغسلوه ، وحنطوه ، وكفنوه ، وصلى عليه جبريل وبنوه خلف الملائكة ، ودفنوه . وقالوا : هذه سنتكم في موتاكم . قالوا : فلولا أنه كان الوصول إلى الجنة التي كان فيها آدم التي اشتهى منها القطف ممكنا لما ذهبوا يطلبون ذلك ، فدل على أنها في الأرض لا في السماء ، والله تعالى أعلم .
قالوا : والاحتجاج بأن الألف واللام في قوله :
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة . لم يتقدم عهد يعود عليه ، فهو المعهود الذهني مسلم ، ولكن هو ما دل عليه سياق الكلام فإن آدم خلق من الأرض ، ولم ينقل أنه رفع إلى السماء . وخلق ليكون في الأرض ، وبهذا أعلم الرب الملائكة حيث قال :
إني جاعل في الأرض خليفة .
قالوا : وهذا كقوله تعالى :
إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة [ القلم : 17 ] . فالألف واللام ليس للعموم ، ولم يتقدم معهود لفظي ، وإنما هي للمعهود الذهني الذي دل عليه السياق وهو البستان .
قالوا : وذكر الهبوط لا يدل على النزول من السماء . قال الله تعالى :
قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك [ هود : 48 ] . الآية . وإنما كان في السفينة حين استقر على الجودي ونضب الماء عن وجه الأرض ، أمر أن يهبط إليها هو ومن معه مباركا عليه وعليهم . وقال الله تعالى :
اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم [ البقرة : 61 ] . الآية . وقال تعالى :
وإن منها لما يهبط من خشية الله [ البقرة : 74 ] . الآية . وفي الأحاديث واللغة من هذا كثير .
قالوا : ولا مانع ، بل هو الواقع ، أن الجنة التي أسكنها آدم كانت مرتفعة عن سائر بقاع الأرض ذات أشجار ، وثمار ، وظلال ، ونعيم ، ونضرة ، وسرور ، كما قال تعالى :
إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى [ طه : 118 ] . أي لا يذل باطنك بالجوع ، ولا ظاهرك بالعري :
وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ طه : 119 ] . أي لا يمس باطنك حر الظمأ ، ولا ظاهرك حر الشمس ، ولهذا قرن بين هذا وهذا ، وبين هذا وهذا لما بينهما من المقابلة . فلما كان منه ما كان من أكله من الشجرة التي نهي عنها أهبط إلى أرض الشقاء ، والتعب ، والنصب ، والكدر ، والسعي ، والنكد ، والابتلاء ، والاختبار ، والامتحان ، واختلاف السكان ; دينا ، وأخلاقا ، وأعمالا ، وقصودا ، وإرادات ، وأقوالا ، وأفعالا ، كما قال تعالى :
ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ البقرة : 36 ] . ولا يلزم من هذا أنهم كانوا في السماء ، كما قال تعالى :
وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا [ الإسراء : 204 ] . ومعلوم أنهم كانوا فيها لم يكونوا في السماء .
قالوا : وليس هذا القول مفرعا على قول من ينكر وجود الجنة والنار اليوم ، ولا تلازم بينهما ، فكل من حكي عنه هذا القول من السلف ، وأكثر الخلف ممن يثبت وجود الجنة والنار اليوم ، كما دلت عليه الآيات ، والأحاديث الصحاح ، كما سيأتي إيرادها في موضعها ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .