لما تمادى قوم نوح على كفرهم ، وعصيانهم بعث الله إليهم نوحا يحذرهم بأسه ، ونقمته ويدعوهم إلى التوبة ، والرجوع إلى الحق ، والعمل بما أمر الله تعالى ويدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وينهاهم عن عبادة ما سواه ، نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فكان
أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509736فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، وأسكنك الجنة ، ألا تشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا ، فيقول : ربي قد غضب غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، ونهاني عن الشجرة فعصيت ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح . فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ، ألا ترى إلى ما بلغنا ، ألا تشفع لنا إلى ربك عز وجل فيقول : ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله . نفسي نفسي . وذكر تمام الحديث بطوله ، كما أورده البخاري في قصة نوح . فلما بعث الله نوحا عليه السلام دعاهم إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له ، وأن لا يعبدوا معه صنما ، ولا تمثالا ، ولا طاغوتا ، وأن يعترفوا بوحدانيته ، وأنه لا إله غيره ، ولا رب سواه ، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلهم من ذريته ، كما قال تعالى :
وجعلنا ذريته هم الباقين [ الصافات : 77 ] . وقال فيه ، وفي إبراهيم :
وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب [ الحديد : 26 ] . أي : كل نبي من بعد نوح فمن ذريته ، وكذلك إبراهيم . قال الله تعالى :
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ النحل : 36 ] . وقال تعالى :
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [ الزخرف : 45 ] . وقال تعالى :
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ الأنبياء : 25 ] . ولهذا قال نوح لقومه :
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [ الأعراف : 59 ] . وقال :
أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم [ هود : 26 ] . وقال :
يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون [ المؤمنون : 23 ] . وقال :
يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا [ نوح : 2 - 14 ] . الآيات الكريمات . فذكر أنه دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل والنهار ، والسر والإجهار ، بالترغيب تارة والترهيب أخرى ، وكل هذا فلم ينجح فيهم ، بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان ، وعبادة الأصنام والأوثان ، ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان ، وتنقصوه وتنقصوا من آمن به . وتوعدوهم بالرجم والإخراج ، ونالوا منهم ، وبالغوا في أمرهم قال الملأ من قومه . أي : السادة الكبراء منهم :
إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين [ الأعراف : 60 ] . أي : لست كما تزعمون من أني ضال بل على الهدى المستقيم ، رسول من رب العالمين ، أي : الذي يقول للشيء كن فيكون
أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون [ الأعراف : 62 ] . وهذا شأن الرسول أن يكون بليغا ، أي : فصيحا ناصحا أعلم الناس بالله عز وجل . وقالوا له فيما قالوا :
ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين [ هود : 27 ] . تعجبوا أن يكون بشرا رسولا ، وتنقصوا بمن اتبعه ، ورأوهم أراذلهم ، وقد قيل : إنهم كانوا من أقياد الناس ، وهم ضعفاؤهم ، كما قال هرقل : وهم أتباع الرسل . وما ذاك إلا لأنه لا مانع لهم من اتباع الحق . وقولهم : بادي الرأي . أي : بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية ، وهذا الذي ذموهم به هو عين ما يمدحون بسببه رضي الله عنهم ، فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية ، ولا فكر ، ولا نظر . بل يجب اتباعه ، والانقياد له متى ظهر ، مدح النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق بسرعة استجابته لدعوته إلى الإسلام ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مادحا للصديق
. ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم . ولهذا كانت بيعته يوم السقيفة أيضا سريعة من غير نظر ، ولا روية ; لأن أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند الصحابة رضي الله عنهم ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فيه على خلافته فتركه . وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509738يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر . رضي الله عنه ، وقول كفرة قوم نوح له ، ولمن آمن به :
وما نرى لكم علينا من فضل . أي : لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ، ولا مزية علينا :
بل نظنكم كاذبين قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون [ هود : 27 - 28 ] .
وهذا تلطف في الخطاب معهم ، وترفق بهم في الدعوة إلى الحق ، كما قال تعالى :
فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ طه : 44 ] . وقال تعالى :
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ النحل : 125 ] . وهذا منه يقول لهم :
أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده . أي النبوة والرسالة
فعميت عليكم . أي فلم تفهموها ، ولم تهتدوا إليها
أنلزمكموها . أي أنغصبكم بها ، ونجبركم عليها
وأنتم لها كارهون . أي : ليس لي فيكم حيلة والحالة هذه
ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله . أي : لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في دنياكم ، وأخراكم إن أطلب ذلك إلا من الله الذي ثوابه خير لي ، وأبقى مما تعطونني أنتم . وقوله :
وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون [ هود : 29 ] كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه ، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك فأبى عليهم ذلك ، وقال إنهم ملاقو ربهم فأخاف إن طردتهم أن يشكوني إلى الله عز وجل ، ولهذا قال :
ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون [ هود : 30 ] . ولهذا لما سأل كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنه ضعفاء المؤمنين ; كعمار ، وصهيب ، وبلال ، وخباب ، وأشباههم نهاه الله عن ذلك ، كما بيناه في سورتي الأنعام ، والكهف :
ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك . أي بل أنا عبد رسول لا أعلم من علم الله إلا ما أعلمني به . ولا أقدر إلا على ما أقدرني عليه ، ولا أملك لنفسي نفعا ، ولا ضرا إلا ما شاء الله
ولا أقول للذين تزدري أعينكم . يعني من أتباعه
لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين . أي لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند الله يوم القيامة الله أعلم بهم ، وسيجازيهم على ما في نفوسهم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، كما قالوا في الموضع الآخر :
أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين [ الشعراء : 111 ] .
وقد تطاول الزمان ، والمجادلة بينه وبينهم ، كما قال تعالى :
فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [ العنكبوت : 14 ] . أي : ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم ، وكان كلما انقرض جيل وصوا من بعدهم بعدم الإيمان به . ومحاربته ، ومخالفته ، وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه وصاه فيما بينه وبينه أن لا يؤمن بنوح أبدا ما عاش ودائما ما بقي ، وكانت سجاياهم تأبى الإيمان واتباع الحق ، ولهذا قال :
ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ نوح : 27 ] . ولهذا قالوا :
يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين [ هود : 32 - 33 ] . أي : إنما يقدر على ذلك الله عز وجل فإنه الذي لا يعجزه شيء ، ولا يكترثه أمر بل هو الذي يقول للشيء : كن فيكون
ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون [ هود : 34 ] . أي : من يرد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وهو الفعال لما يريد ، وهو العزيز الحكيم العليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية ، وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة تعزية لنوح في قومه بأنه لن يؤمن معه إلا من قد آمن
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون [ هود : 36 ] . وهذه تعزية لنوح عليه السلام في قومه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن ، وتسلية له عما كان منهم إليه
فلا تبتئس بما كانوا يفعلون . أي : لا يسوأنك ما جرى فإن النصر قريب ، والنبأ عجيب
واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون . وذلك أن نوحا عليه السلام لما يئس من صلاحهم ، وفلاحهم ، ورأى أنهم لا خير فيهم ، وتوصلوا إلى أذيته ، ومخالفته ، وتكذيبه بكل طريق من فعال ، ومقال دعا عليهم دعوة غضب لله فلبى الله دعوته وأجاب طلبته ، قال الله تعالى :
ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم [ الصافات : 75 - 76 ] . وقال تعالى :
ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم [ الأنبياء : 76 ] . وقال تعالى :
قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين [ الشعراء : 117 - 118 ] . وقال تعالى :
فدعا ربه أني مغلوب فانتصر [ القمر : 10 ] . وقال تعالى :
قال رب انصرني بما كذبون [ المؤمنون : 26 ] . وقال تعالى :
مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ نوح : 25 - 27 ] فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ، ودعوة نبيهم عليهم . إيذاء قوم نوح له وقال ابن إسحاق وغيره :
إن قوم نوح كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهم اغفر لي ولقومي فإنهم لا يعلمون ! حتى إذا تمادوا في معصيتهم وعظمت منهم الخطيئة ، وتطاول عليه وعليهم الشأن اشتد عليه البلاء ، وانتظر النجل بعد النجل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي كان قبله حتى إن كان الآخر ليقول : قد كان هذا مع آبائنا ، وأجدادنا مجنونا لا يقبلون منه شيئا ، وكان يضرب ويلف ، ويلقى في بيته ، يرون أنه قد مات ، فإذا أفاق اغتسل وخرج إليهم يدعوهم إلى الله ، فلما طال ذلك عليه ، ورأى الأولاد شرا من الآباء قال : رب قد ترى ما يفعل بي عبادك ، فإن تك لك فيهم حاجة فاهدهم ، وإن يك غير ذلك فصيرني إلى أن تحكم فيهم . فأوحى إليه : إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، فلما يئس من إيمانهم دعا عليهم فقال :
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا