فلما شكا نوح إلى الله واستنصره عليهم ، أوحى الله إليه أن : اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فأقبل نوح على عمل الفلك وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير قبلها ، ولا يكون بعدها مثلها ، وتقدم الله تعالى إليه أنه إذا جاء أمره ، وحل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين أنه لا يعاوده فيهم ولا يراجعه ، فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم ، فإنه ليس الخبر كالمعاينة ، ولهذا قال :
ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه . أي يستهزئون به استبعادا لوقوع ما توعدهم به قال
إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون . أي : نحن الذين نسخر منكم ، ونتعجب منكم في استمراركم على كفركم ، وعنادكم الذي يقتضي وقوع العذاب بكم وحلوله عليكم
فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم . ويقولون : يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة ! وقد كانت سجاياهم الكفر الغليظ ، والعناد البالغ في الدنيا . وهكذا في الآخرة فإنهم يجحدون أيضا أن يكون جاءهم من الله رسول ، كما قال البخاري بسنده عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509739يجيء نوح عليه السلام ، وأمته فيقول الله عز وجل : هل بلغت . فيقول : نعم . أي رب . فيقول لأمته : هل بلغكم . فيقولون : لا ما جاءنا من نبي . فيقول لنوح : من يشهد لك . فيقول : محمد وأمته . فتشهد أنه قد بلغ . وهو قوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] .
والوسط : العدل فهذه الأمة تشهد على شهادة نبيها الصادق المصدوق بأن الله قد بعث نوحا بالحق ، وأنزل عليه الحق وأمره به . وأنه بلغه إلى أمته على أكمل الوجوه وأتمها ، ولم يدع شيئا مما ينفعهم في دينهم إلا وقد أمرهم به . ولا شيئا مما قد يضرهم إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه . تحذير كل رسول قومه من الدجال وهكذا شأن جميع الرسل حتى إنه حذر قومه المسيح الدجال ، وإن كان لا يتوقع خروجه في زمانهم حذرا عليهم وشفقة ورحمة بهم ، كما قال البخاري بسنده عن سالم : قال ابن عمر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509740قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم ذكر الدجال ، فقال : إني لأنذركموه ، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه ، لقد أنذره نوح قومه ، ولكني أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه ; تعلمون أنه أعور ، وأن الله ليس بأعور .
وقد قال بعض علماء السلف : لما استجاب الله له أمره أن يغرس شجرا ليعمل منه السفينة فغرسه ، وانتظره مائة سنة ، ثم نجره في مائة أخرى . وقيل : في أربعين سنة . فالله أعلم . قال محمد بن إسحاق ، عن الثوري : وكان من خشب الساج . وقيل : من الصنوبر . وهو نص التوراة . قال الثوري : وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعا ، وعرضها خمسين ذراعا ، وأن يطلى ظاهرها وباطنها بالقار ، وأن يجعل لها جؤجؤا أزور يشق الماء . وقال قتادة : كان طولها ثلثمائة ذراع في عرض خمسين ذراعا . وهذا الذي في التوراة على ما رأيته .
وقال الحسن البصري : ستمائة في عرض ثلثمائة . وعن ابن عباس : ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة ذراع . وقيل : كان طولها ألفي ذراع ، وعرضها مائة ذراع ، قالوا كلهم : وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعا ، وكانت ثلاث طبقات كل واحدة عشر أذرع ; فالسفلى للدواب والوحوش ، والوسطى للناس ، والعليا للطيور ، وكان بابها في عرضها ، ولها غطاء من فوقها مطبق عليها .
قال الله تعالى :
قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا [ المؤمنون : 26 ] . أي ; بأمرنا لك ، وبمرأى منا لصنعتك لها ، ومشاهدتنا لذلك لنرشدك إلى الصواب في صنعتها
فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون [ المؤمنون : 27 ] . فتقدم إليه بأمره العظيم العالي أنه إذا جاء أمره ، وحل بأسه أن يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات وسائر ما فيه روح من المأكولات ، وغيرها لبقاء نسلها ، وأن يحمل معه أهله أي : أهل بيته إلا من سبق عليه القول منهم ; أي إلا من كان كافرا فإنه قد نفذت فيه الدعوة التي لا ترد ، ووجب عليه حلول البأس الذي لا يرد ، وأمره أن لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعاينه من العذاب العظيم الذي قد حتمه عليهم الفعال لما يريد ، كما قدمنا بيانه قبل . المقصود بالتنور
والمراد بالتنور عند الجمهور وجه الأرض أي ; نبعت الأرض من سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التي هي محال النار ، وعن ابن عباس : التنور عين في الهند . وعن الشعبي : بالكوفة . وعن قتادة : بالجزيرة . وقال علي بن أبي طالب : المراد بالتنور فلق الصبح . وتنوير الفجر أي : إشراقه وضياؤه أي : عند ذلك فاحمل فيها من كل زوجين اثنين ، وهذا قول غريب .
وقوله تعالى :
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل . هذا أمر ثان عند حلول النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين . وفي كتاب أهل الكتاب أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج ، ومما لا يؤكل زوجين ذكرا وأنثى ، وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق : اثنين . إن جعلنا ذلك مفعولا به . وأما إن جعلناه توكيدا لزوجين ، والمفعول به محذوف فلا تنافي ، والله أعلم .
وذكر بعضهم ، ويروى عن ابن عباس : أن أول ما دخل من الطيور الدرة ، وآخر ما دخل من الحيوانات الحمار ، ودخل إبليس متعلقا بذنب الحمار . وعن زيد بن أسلم ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين قال أصحابه : وكيف نطمئن أو كيف تطمئن المواشي ومعنا الأسد ؟ فسلط الله عليه الحمى فكانت أول حمى نزلت في الأرض ، ثم شكوا الفأرة فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا ، فأوحى الله إلى الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها . هذا مرسل . وقوله :
وأهلك إلا من سبق عليه القول . أي من استجبت فيهم الدعوة النافذة ممن كفر فكان منهم ابنه يام الذي غرق ، ومن آمن ، أي واحمل فيها من آمن بك من أمتك قال الله تعالى :
وما آمن معه إلا قليل . هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ، ودعوتهم الأكيدة ليلا ونهارا بضروب المقال ، وفنون التلطفات ، والتهديد والوعيد تارة ، والترغيب والوعد أخرى .
عدة من كان مع نوح في السفينة وقد اختلف في
عدة من كان معه في السفينة فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفسا معهم نساؤهم . وعن كعب الأحبار كانوا اثنين وسبعين نفسا . وقيل : كانوا عشرة . وقيل : إنما كانوا نوحا وبنيه الثلاثة ، وكنائنه الأربع بامرأة يام الذي انخزل وانعزل وسلك غير طريق النجاة فما عدل إذ عدل . وهذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية بل هي نص في أنه قد ركب معه من غير أهله طائفة ممن آمن به . كما قال :
ونجني ومن معي من المؤمنين . وقيل : كانوا سبعة . وأما امرأة نوح ، وهي أم أولاده كلهم ; وهم حام ، وسام ، ويافث ، ويام ، وتسميه أهل الكتاب كنعان ، وهو الذي قد غرق ، وعابر . وقد مات قبل الطوفان . قيل : إنها غرقت مع من غرق ، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها . وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة ، فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك أو أنها أنظرت ليوم القيامة ، والظاهر الأول لقوله :
لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] . قال الله تعالى :
فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين [ المؤمنون : 28 - 29 ] . أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة فنجاه بها ، وفتح بينه وبين قومه ، وأقر عينه ممن خالفه وكذبه ، كما قال تعالى :
الذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ الزخرف : 12 - 14 ] . وهكذا
يؤمر بالدعاء في ابتداء الأمور أن يكون على الخير والبركة ، وأن تكون عاقبتها محمودة ، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حين هاجر :
وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا [ الإسراء : 80 ] .