ثم قال تعالى : قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم . هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الأرض ، وأمكن السعي فيها ، والاستقرار عليها ، أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودي وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور ، وقد قدمنا ذكره عند خلق الجبال بسلام منا وبركات . أي اهبط سالما مباركا عليك ، وعلى أمم ممن سيولد بعد . أي من أولادك فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلا ، ولا عقبا سوى نوح عليه السلام قال تعالى : وجعلنا ذريته هم الباقين . إخبار عيسى عليه السلام للحوارين عن سفينة نوح وعن ابن عباس أنه قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدثنا عنها ؟ قال : فانطلق بهم حتى أتى إلى كثيب من تراب ، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه ، قال : أتدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : هذا كعب حام بن نوح . قال : وضرب الكثيب بعصاه ، وقال : قم بإذن الله . فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب . فقال له : عيسى عليه السلام هكذا هلكت . قال : لا . ولكني مت وأنا شاب ، ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت . قال : حدثنا عن سفينة نوح . قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات ; فطبقة فيها الدواب والوحش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير ، فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل ، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث ، ولما وقع الفأر يخرز السفينة بقرضه أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اضرب بين عيني الأسد ، فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر . فقال له عيسى : كيف علم نوح عليه السلام أن البلاد قد غرقت . قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها ، فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت . قال : ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها ، فعلم أن البلاد قد غرقت فطوقها الخضرة التي في عنقها ، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان فمن ثم تألف البيوت . قال : فقالوا : يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا ؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ قال : فقال له : عد بإذن الله فعاد ترابا ، وهذا أثر غريب جدا .

وعن ابن عباس قال : كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم ، وأنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوما ، وأن الله وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوما ، ثم وجهها إلى الجودي فاستقرت عليه فبعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الأرض ، فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه ، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ، ولطخت رجليها بالطين ، فعرف نوح أن الماء قد نضب ، فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية ، وسماها ثمانين ، فأصبحوا ذات يوم ، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ; إحداها لغة العربي ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض ، فكان نوح عليه السلام يعبر عنه .

وقال قتادة وغيره : ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوما ، واستقرت بهم على الجودي شهرا ، وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم ، وقد روى ابن جرير خبرا مرفوعا يوافق هذا ، وأنهم صاموا يومهم ذلك .

وعن أبي هريرة قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود ، وقد صاموا يوم عاشوراء فقال : " ما هذا من الصوم ؟ " فقالوا : هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق ، وغرق فيه فرعون ، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله عز وجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم " . وقال لأصحابه : " من كان منكم أصبح صائما فليتم صومه ، ومن كان أصاب من غداء أهله فليتم بقية يومه " . وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر ، والمستغرب ذكر نوح أيضا . والله أعلم .

وأما ما يذكره كثير من الجهلة : أنهم أكلوا من فضول أزوادهم ، ومن حبوب كانت معهم قد استصحبوها ، وطحنوا الحبوب يومئذ ، واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم لما ابهارت من الضياء بعد ما كانوا في ظلمة السفينة ، فكل هذا لا يصح فيه شيء ، وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بني إسرائيل لا يعتمد عليها ولا يقتدى بها ، والله أعلم .

انتهاء الطوفان وقال محمد بن إسحاق : لما أراد الله أن يكف ذلك الطوفان أرسل ريحا على وجه الأرض فسكن الماء ، وانسدت ينابيع الأرض ، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر ، وكان استواء الفلك على الجودي فيما يزعم أهل التوراة في الشهر السابع لسبع عشر ليلة مضت منه ، وفي أول يوم من الشهر العاشر رئيت رءوس الجبال ، فلما مضى بعد ذلك أربعون يوما فتح نوح كوة الفلك التي صنع فيها ، ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه ، فأرسل الحمامة فرجعت إليه فلم يجد لرجليها موضعا ، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ، ثم مضت سبعة أيام ، ثم أرسلها لتنظر له ، فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتونة فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الأرض ، ثم مكث سبعة أيام ، ثم أرسلها فلم ترجع إليه فعلم نوح أن الأرض قد برزت ، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ، ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين برز وجه الأرض وظهر البر ، وكشف نوح غطاء الفلك . وهذا الذي ذكره ابن إسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب قال ابن إسحاق : وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم . وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحا قائلا له : اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك ، وجميع الدواب التي معك ، ولتنموا ولتكثروا في الأرض ، فخرجوا ، وابتنى نوح مذبحا لله عز وجل ، وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال فذبحها قربانا إلى الله عز وجل ، وعهد الله إليه أن لا يعيد الطوفان على أهل الأرض ، وجعل تذكار الميثاق إليه القوس الذي في الغمام ، وهو قوس قزح الذي قدمنا عن ابن عباس أنه أمان من الغرق . قال بعضهم : فيه إشارة إلى أنه قوس بلا وتر . أي ; أن هذا الغمام لا يوجد منه طوفان كأول مرة . والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية