مهاجرة إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل وأمه هاجر إلى جبال فاران وهي أرض مكة وذلك أن هاجر عليها السلام لما ولد لها إسماعيل اشتدت غيرة سارة منها، وطلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها ، وقالت سارة : لا تساكنني في بلد . فأوحى الله إلى إبراهيم أن تأتي بمكة ، وليس بها يومئذ نبت ، فجاء إبراهيم بإسماعيل وأمه هاجر فوضعهما بمكة بموضع زمزم وروى ابن إسحاق عن أشياخه: أن إبراهيم [خرج] ومعه جبرئيل ، فكان لا يمر بقرية إلا قال: بهذه أمرت يا جبرئيل؟ فيقول جبرئيل: امضه ، حتى قدم به مكة وهي ذات عضاه وسلم وسمر ، وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وحولها ، والبيت يومئذ ربوة حمراء ، فقال لجبرئيل: أهاهنا [أمرت] أن أضعهما؟ قال: نعم ، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه ، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا ، ثم انصرف إلى الشام فتركهما . قال البخاري : بسنده عن ابن عباس قال : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب ، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذا لا يضيعنا . ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون [ إبراهيم : 37 ] . وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى . أو قال : يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى إذا جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فذلك سعي الناس بينهما . فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه . تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث . فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء ، فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها ، وهو يفور بعد ما تغرف . وقيل : إن الذي أنبع الماء جبرائيل ، فإنه نزل إلى هاجر وهي تسعى في الوادي فسمعت حسه فقالت : قد أسمعتني فأغثني فقد هلكت أنا ومن معي . فجاء بها إلى موضع زمزم ، فضرب بقدمه ، ففارت عينا ، فتعجلت ، فجعلت تفرغ في شنها . فقال لها : لا تخافي الظمأ . وقال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم . أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا . قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله

مرور قبيلة جرهم بأم إسماعيل عليهما السلام

فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على الماء ، لعهدنا بهذا الوادي ، وما فيه ماء ، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا قال : وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : تأذنين لنا أن ننزل عندك . قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء . قالوا : نعم . قال عبد الله بن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس . فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام ، وتعلم العربية منهم ، وأنفسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم ، وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا . ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بشر نحن في ضيق وشدة . وشكت إليه ، قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، وقولي له يغير عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا ، فقال : هل جاءكم من أحد ؟ فقالت : نعم . جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسألنا عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة . قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم . أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول : غير عتبة بابك . قال : ذاك أبي ، وأمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك . فطلقها وتزوج منهم أخرى. زيارة إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام ولبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل ، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل . فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل ، فقال لامرأته أين صاحبك ؟ قالت : ذهب ليتصيد وهو يجيء الآن إن شاء الله تعالى ، فانزل يرحمك الله . فقال لها : فعندك ضيافة ؟ قالت : نعم . قال : فهل عندك خبز ، أو بر ، أو شعير ، أو تمر ؟ قال : فجاءت باللبن واللحم ، فدعا لهما بالبركة ، ولو جاءت يومئذ بخبز ، أو تمر ، أو بر ، أو شعير لكانت أكثر أرض الله من ذلك ، فقالت : انزل حتى أغسل رأسك . فلم ينزل . فجاءته بالمقام بالإناء فوضعته عند شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه فبقي أثر قدمه فيه ، فغسلت شق رأسه الأيمن ، ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر ففعلت به كذلك . فقال لها : إذا جاء زوجك فأقرئيه عني السلام وقولي له : قد استقامت عتبة بابك .

فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه ، فقال لامرأته : هل جاءك أحد ؟ قالت : نعم ، شيخ أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا ، فقال لي كذا وكذا . وقلت له كذا وكذا ، وغسلت رأسه ، وهذا موضع قدمه ، وهو يقرئك السلام ويقول : قد استقامت عتبة بابك . قال : ذلك إبراهيم .

ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم ، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الولد بالوالد والوالد بالولد ، وقال البخاري بسنده عن ابن عباس قال : لما كان بين إبراهيم وأهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء . وذكر تمامه بنحو ما تقدم ، وهذا الحديث من كلام ابن عباس ، وموشح برفع بعضه ، وفي بعضه غرابة ، وكأنه مما تلقاه ابن عباس عن الإسرائيليات ، وفيه أن إسماعيل كان رضيعا إذ ذاك وعند أهل التوراة أن إبراهيم أمره الله بأن يختن ولده إسماعيل ، وكل من عنده من العبيد وغيرهم فختنهم ، وذلك بعد مضي تسع وتسعين سنة من عمره ، فيكون عمر إسماعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة ، وهذا امتثال لأمر الله عز وجل في أهله فيدل على أنه فعله على وجه الوجوب ؛ ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أنه واجب على الرجال ، كما هو مقرر في موضعه .

وقد ثبت في الحديث الذي رواه البخاري ، بسنده عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : اختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم . وفي بعض الألفاظ اختتن إبراهيم بعد ما أتت عليه ثمانون سنة واختتن بالقدوم . والقدوم هو الآلة . وقيل : موضع . وهذا اللفظ لا ينافي الزيادة على الثمانين والله أعلم لما سيأتي من الحديث عند ذكر وفاته ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : اختتن إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة ، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة . رواه ابن حبان في صحيحه ، وليس في هذا السياق ذكر قصة الذبيح وأنه إسماعيل ، ولم يذكر في قدمات إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث مرات ، أولاهن بعد أن تزوج إسماعيل بعد موت هاجر ، وكيف يتركهم من حين صغر الولد على ما ذكر إلى حين تزويجه لا ينظر في حالهم ؟ وقد ذكر أن الأرض كانت تطوى له . وقيل : إنه كان يركب البراق إذا سار إليهم ، فكيف يتخلف عن مطالعة حالهم ، وهم في غاية الضرورة الشديدة والحاجة الأكيدة ؟ وكأن بعض هذا السياق متلقى من الإسرائيليات ، ومطرز بشيء من المرفوعات.

التالي السابق


الخدمات العلمية