قصة الذبيح عليه السلام

أمر الله إبراهيم - عليه السلام - بذبح ابنه فيما ذكر أنه دعا الله أن يهب له ولدا ذكرا صالحا ، فقال : الله تعالى : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ الصافات : 99 - 113 ] . يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا فبشره الله تعالى بغلام حليم ، وهو إسماعيل عليه السلام ؛ لأنه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل ، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل أنه أول ولده وبكره . وقوله : فلما بلغ معه السعي أي شب وصار يسعى في مصالحه كأبيه . قال مجاهد : فلما بلغ معه السعي أي شب وارتحل ، وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل ، فلما كان هذا أري إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا .

وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعا . رؤيا الأنبياء وحي . قاله عبيد بن عمير أيضا . وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر ، وقد طعن في السن بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر ، وواد ليس به حسيس ولا أنيس ولا زرع ولا ضرع ، فامتثل أمر الله في ذلك ، وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلا عليه فجعل الله لهما فرجا ومخرجا ، ورزقهما من حيث لا يحتسبان ، ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا ، الذي قد أفرده عن أمر ربه ، وهو بكره ووحيده الذي ليس له غيره أجاب ربه وامتثل أمره وسارع إلى طاعته ، ثم عرض ذلك على ولده ؛ ليكون أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قسرا ويذبحه قهرا ، قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى . فبادر الغلام الحليم يبر والده الخليل إبراهيم ، فقال : يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين . وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد . قال الله تعالى : فلما أسلما وتله للجبين . قيل : أسلما أي استسلما لأمر الله وعزما على ذلك . وقيل : هذا من المقدم والمؤخر ، والمعنى تله للجبين أي ألقاه على وجهه . قيل : أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حال ذبحه . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والضحاك . وقيل : بل أضجعه كما تضجع الذبائح ، وبقي طرف جبينه لاصقا بالأرض ، وأسلما أي سمى إبراهيم وكبر وتشهد وسلم الولد للموت . قال السدي وغيره : أمر السكين على حلقه فلم تقطع شيئا . ويقال : جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس . والله أعلم . وقال محمد بن إسحاق : إن إبراهيم قال لابنه حين أمر بذبحه : يا بني ، خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب لأهلك . فلما توجه اعترضه إبليس ليصده عن ذلك ، فقال : إليك عني يا عدو الله ! فوالله لأمضين لأمر الله ! فاعترض إسماعيل فأعلمه ما يريد إبراهيم يصنع به ، فقال : سمعا لأمر ربي وطاعة . فذهب إلى هاجر فأعلمها ، فقالت : إن كان ربه أمره بذلك فتسليما لأمر الله . فرجع بغيظه لم يصب منهم شيئا .

فلما خلا إبراهيم بالشعب ، وهو شعب ثبير ، قال له : يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين . ثم قال له يا أبت إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصبك من دمي شيء فينتقص أجري ، فإن الموت شديد ، واشحذ شفرتك حتى تريحني ، فإذا أضجعتني فكبني على وجهي فإني أخشى إن نظرت في وجهي أنك تدرك رحمة فتحول بينك وبين أمر الله ، وإن رأيت أن ترد قميصي إلى هاجر أمي فعسى أن يكون أسلى لها عني ، فافعل . فقال إبراهيم : نعم المعين أنت ، أي بني ، على أمر الله !

فربطه كما أمره ، ثم حد شفرته وتله للجبين ، ثم أدخل الشفرة لحلقه ، فقلبها الله لقفاها ، ثم اجتذبها إليه ليفرغ منه ، فنودي : أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا ، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها . أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك وبذلك ولدك للقربان ، كما سمحت ببدنك للنيران ، وكما مالك مبذول للضيفان ؛ ولهذا قال تعالى : إن هذا لهو البلاء المبين . أي الاختبار الظاهر البين . وقوله : وفديناه بذبح عظيم . أي وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه ، والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن رآه مربوطا بسمرة في ثبير . وعن ابن عباس قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا . وقال سعيد بن جبير : كان يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير ، وكان عليه عهن أحمر . وعن ابن عباس : هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه ، وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه . رواه ابن أبي حاتم . قال مجاهد : فذبحه بمنى . وقال عبيد بن عمير : ذبحه بالمقام . فأما ما روي عن ابن عباس أنه كان وعلا ، وعن الحسن أنه كان تيسا من الأروى واسمه جرير فلا يكاد يصح عنهما ، ثم غالب ما هاهنا من الآثار مأخوذ من الإسرائيليات ، وفي القرآن كفاية عما جرى من الأمر العظيم والاختبار الباهر وأنه فدي بذبح عظيم . وقد ورد في الحديث أنه كان كبشا ، قال الإمام أحمد بسنده عن صفية بنت شيبة قالت أخبرتني امرأة من بني سليم ، ولدت عامة أهل دارنا قالت : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة . وقال مرة : إنها سألت عثمان لم دعاك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي . قال : سفيان لم تزل قرنا الكبش في البيت حتى احتراق البيت فاحترقا . وهكذا روي عن ابن عباس أن رأس الكبش لم يزل معلقا عند ميزاب الكعبة قد يبس ، وهذا وحده دليل على أن الذبيح إسماعيل ؛ لأنه كان هو المقيم بمكة وإسحاق لا نعلم أنه قدمها في حال صغره ، والله أعلم .

وهذا هو الظاهر من القرآن ، بل كأنه نص على أن الذبيح هو إسماعيل ؛ اختلاف السلف في الذبيح واختلف السلف من المسلمين في الذبيح ، فقال بعضهم : هو إسماعيل . وقال بعضهم : هو إسحاق . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلا القولين ، ولو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره .

فأما الحديث في أن الذبيح إسحاق فقد روى الأحنف ، عن العباس بن عبد المطلب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ذكر فيه : وفديناه بذبح عظيم هو إسحاق ، وقد روي هذا الحديث عن العباس من قوله لم يرفعه .

وأما الحديث الآخر في أن الذبيح إسماعيل فقد روى الصنابحي قال : كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح فقال : على الخبير سقطتم ، كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل فقال : يا رسول الله ، عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين ، فضحك - صلى الله عليه وسلم - فقيل لمعاوية ، وما الذبيحان ؟ فقال : إن عبد المطلب نذر إن سهل الله حفر زمزم أن يذبح أحد أولاده ، فخرج السهم على عبد الله أبي النبي - صلى الله عليه وسلم - ففداه بمائة بعير ، وسنذكره إن شاء الله ، والذبيح الثاني إسماعيل .

ذكر من قال إنه إسحاق

ذهب عمر بن الخطاب ، وعلي ، والعباس بن عبد المطلب ، وابنه عبد الله - رضي الله عنهم - فيما رواه عنه عكرمة ، وعبد الله بن مسعود ، وكعب ، وابن سابط ، وابن أبي الهذيل ، ومسروق إلى أن الذبيح إسحاق ، عليه السلام .

حدث عمرو بن أبي سفيان بن أبي أسيد بن أبي جارية الثقفي أن كعبا قال لأبي هريرة : ألا أخبرك عن إسحاق بن إبراهيم ؟ قال : بلى . قال كعب : لما رأى إبراهيم ذبح إسحاق قال الشيطان : والله لئن لم أفتتن أحدا منهم بعد ذلك أبدا ، فتمثل رجلا يعرفونه فأقبل حتى إذا خرج إبراهيم بإسحاق ليذبحه دخل على سارة امرأة إبراهيم ، فقال لها : أين أصبح إبراهيم غاديا بإسحاق ؟ قالت : لبعض حاجته . قال : لا والله إنما غدا به ليذبحه ! قالت سارة : لم يكن ليذبح ولده . قال الشيطان : بلى والله لأنه زعم أن الله قد أمره بذلك . قالت سارة : فهذا أحسن أن يطيع ربه . ثم خرج الشيطان ، فأدرك إسحاق وهو مع أبيه ، فقال له : إن إبراهيم يريد أن يذبحك . قال إسحاق : ما كان ليفعل . قال : بلى والله إنه زعم أن ربه أمر بذلك . قال إسحاق : فوالله لئن أمره ربه بذلك ليطيعنه ! فتركه ولحق إبراهيم ، فقال : أين أصبحت غاديا بابنك ؟ قال : لبعض حاجتي . قال : لا والله إنما تريد ذبحه ! قال : ولم ؟ قال : لأنك زعمت أن الله أمر بذلك . قال إبراهيم : فوالله إن كان الله أمرني بذلك لأفعلن .

فلما أخذ إبراهيم إسحاق ليذبحه أعفاه الله من ذلك ، وفداه بذبح عظيم ، وأوحى الله إلى إسحاق : إني معطيك دعوة أستجيب لك فيها . قال إسحاق : اللهم فأيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئا فأدخله الجنة .

قال عبيد بن عمير : قال موسى : يا رب يقولون يا إله إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، فبم نالوا ذلك ؟ قال : إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلا اختارني ، وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود ، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن بي .

( أسيد بفتح الهمزة ، وكسر السين . وجارية بالجيم ) . من قال إن الذبيح إسماعيل عليه السلام

روى سعيد بن جبير ، ويوسف بن مهران ، والشعبي ، ومجاهد ، وعطاء بن أبي رباح كلهم عن ابن عباس أنه قال : إن الذبيح إسماعيل ، وقال : زعمت اليهود أنه إسحاق ، وكذبت اليهود . وقال أبو الطفيل ، والشعبي : رأيت قرني الكبش في الكعبة .

قال محمد بن كعب : إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من بنيه إسماعيل ، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن إبراهيم وما أمر به من ذبحه ابنه أنه إسماعيل ، وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ، ويقول : وبشرناه بإسحاق نبيا ، ومن وراء إسحاق يعقوب بابن وابن ابن ، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق ، وله فيه من الله - عز وجل - ما وعده ، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل ، فذكر ذلك محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة ، فقال : إن هذا الشيء ما كنت أنظر فيه وإني لأراه كما قلت .

التالي السابق


الخدمات العلمية