ودخلت السنون المجدبة وقحط الناس ، وأصابهم الجوع قال العلماء: وبلغ الجدب أرض كنعان وهلكت ماشية يعقوب ودوابه ، وجاع هو وأولاده ، فقال لهم: انطلقوا فاشتروا لنا من عزيز مصر طعاما . وكان يوسف قد أقعد صاحب جوازه على الطريق ، وأمره أن لا يترك أحدا من أهل الشام يدخل مصر إلا سأله عن حاله وقصته ، فلما قدم ولد يعقوب سألهم من أين هم؟ فقالوا: نحن كنعانيون من بني يعقوب النبي عليه السلام ، وكتب إلى يوسف بذلك ، وأنهم يريدون اشتراء طعام ، فورد الكتاب على يوسف فبكى بكاء شديدا ، ثم قال: عز علي يا نبي الله بما قاسيت من فقراء الشام وجوعها ، وأنا ملك مصر ، ثم أدخلهم عليه
فعرفهم وهم له منكرون [12: 58] فجعته العبرة ، ثم قال: من أين أنتم؟ قالوا: من وادي كنعان ، قال: ومن أنتم؟ قالوا: بنو يعقوب النبي ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، فقال: حياكم الله يا ولد يعقوب ، ألكم حاجة؟
قالوا: نعم ، أصابتنا خصاصة ، فوجهنا يعقوب إليك نمتار منك طعاما ، فأمر بصرارهم فأخذت ، ثم دعا فتاه من حيث لا يشعرون ، فأمره أن يجعل كل صرة في حمل من الأحمال التي يكيل فيها الطعام لهم ، وكان هو يتولى الكيل بنفسه ويخيط الحمل بنفسه ، فلما أرادوا الرحيل ، قال: كيف رأيتم سيرتي وحسن ضيفي؟ قالوا: جزاك الله خيرا ، فقال: إن لي إليكم حاجة ، قالوا: وما حاجتك؟ قال: تخبروني كم ولد يعقوب؟ قالوا: اثنا عشر ، قال: فما أرى إلا عشرة ، قالوا: أما أحدهما وكان يقال له يوسف ، وكان أجملنا فأكله الذئب ، قال: فالآخر ، قالوا: موكل بخدمة يعقوب يتسلى به ، قال: فآتوني بأخيكم هذا ،
فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون [12: 60] .
فرجعوا إلى يعقوب فقصوا عليه قصتهم ، فبكى يعقوب ، وقال:
هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل [12: 64] ثم فتحوا متاعهم فوجدوا الصرار ، فقالوا:
يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا [12: 65] ثم ما زالوا بيعقوب حتى بعث معهم ابن يامين ، ثم إنه كره أن تصيبهم العين ، فقال:
لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة [12: 67] .
فلما وصلوا إليه فرأى يوسف ابن يامين خنقته العبرة ، فلما جلسوا نصب لهم موائد ستة ، وأمر كل واحد منهم أن يأخذ بيد أخيه من أمه وأبيه فيجلسان على مائدة ، وأخذ كل واحد بيد أخيه ، فبقيت مائدة خالية وابن يامين قائم وحده ، فقال يوسف: يا غلام ما لك لا تقعد مع إخوتك؟ قال: ليس لي قرين ، ولقد كان لي أخ فأكله الذئب ، فقال: أتحب يا غلام أن أجلس أنا معك؟ قال: نعم ، فجلس معه فجعل ابن يامين يبكي ، قال: ما لك؟ قال: أرى في وجهك علامات طالما كنت أراها في وجه أخي يوسف .
فلما كال لهم أمر فتاه أن يجعل الصواع في رحل ابن يامين فلما خرجوا نادى مناد:
أيتها العير إنكم لسارقون [12: 70] .
فجرى لهم ما قص في القرآن إلى أن ظهر الصواع في رحل ابن يامين ، فأقبلوا يلطمون وجه ابن يامين ، وهو يقول: وحق شيبة إبراهيم ما سرقت ولا علمت كما لم تعلموا أنتم بصراركم قبل ذلك ، فلما رجعوا إلى أبيهم ، تخلف روبيل ، وقال:
فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي [12: 80] .
فلما أخبروا يعقوب ، قال:
عسى الله أن يأتيني بهم جميعا [12: 83] ، ثم أعرض عنهم ،
وقال يا أسفى على يوسف [12: 84] ،
وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم مملوء من الحزن والغيظ فقال له بنوه :
تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا - أي : دنفا -
أو تكون من الهالكين . فأجابهم يعقوب فقال :
إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون من صدق رؤيا يوسف .
وقيل : بلغ من وجد يعقوب وجد سبعين مبتلى ، وأعطي على ذلك أجر مائة شهيد .
قيل : دخل على يعقوب جار له فقال : يا يعقوب ، قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك ! فقال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف . فأوحى الله إليه : أتشكوني إلى خلقي ؟ قال : يا رب خطيئة فاغفرها . قال : قد غفرتها لك . فكان يعقوب إذا سئل بعد ذلك قال :
إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فأوحى الله إليه : لو كانا ميتين لأحييتهما لك ، إنما ابتليتك لأنك قد شويت وقترت على جارك ولم تطعمه .
وقيل : كان سبب ابتلائه أنه كان له بقرة لها عجول فذبح عجولها بين يديها وهي تخور فلم يرحمها يعقوب ، فابتلي بفقد أعز ولده عنده ، وقيل : ذبح شاة ، فقام ببابه مسكين فلم يطعمه منها ، فأوحى الله إليه في ذلك وأعلمه أنه سبب ابتلائه ، فصنع طعاما ونادى : من كان صائما فليفطر عند يعقوب .
ثم إن يعقوب أمر بنيه الذين قدموا عليه من مصر بالرجوع إليها وتجسس الأخبار عن يوسف وأخيه ، فرجعوا إلى مصر