فأرسلته ذات يوم ، وذهلت أن تربط طرف الحبل عندها ، فذهب مع النيل فمر على دار فرعون
فالتقطه آل فرعون قال الله تعالى :
ليكون لهم عدوا وحزنا قال بعضهم : هذه لام العاقبة . وهو ظاهر إن كان متعلقا بقوله فالتقطه وأما إن جعل متعلقا بمضمون الكلام ; وهو أن آل فرعون قيضوا لالتقاطه ; ليكون لهم عدوا وحزنا ، صارت اللام معللة لغيرها ، والله أعلم . ويقوي هذا التفسير الثاني قوله
إن فرعون وهامان وهو الوزير السوء وجنودهما المتابعين لهما كانوا خاطئين أي ; كانوا على خلاف الصواب ، فاستحقوا هذه العقوبة والحسرة .
وذكر المفسرون أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه ، فلم يتجاسرن على فتحه ، حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد ، الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف . وقيل : إنها كانت من بني إسرائيل من سبط موسى . وقيل : بل كانت عمته . حكاه السهيلي . فالله أعلم . وسيأتي مدحها والثناء عليها في قصة مريم بنت عمران ، وأنهما يكونان يوم القيامة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة . فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب ، رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية والجلالة الموسوية ، فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حبا شديدا ، فلما جاء فرعون قال : ما هذا ؟ وأمر بذبحه ، فاستوهبته منه ودفعت عنه ، وقالت :
قرة عين لي ولك فقال لها فرعون : أما لك فنعم ، وأما لي فلا . أي ; لا حاجة لي به . والب?لاء موكل بالمنطق . وقولها :
عسى أن ينفعنا وقد أنالها الله ما رجت من النفع أما في الدنيا فهداها الله به ، وأما في الآخرة فأسكنها جنته بسببه
أو نتخذه ولدا وذلك لأنهما تبنياه ; لأنه لم يكن يولد لهما ولد . قال الله تعالى :
وهم لا يشعرون أي ; لا يدرون ماذا يريد الله بهم ، أن قيضهم لالتقاطه ، من النقمة العظيمة بفرعون وجنوده . وعند أهل الكتاب أن الذي التقطت موسى وربته ابنة فرعون ، وليس لامرأته ذكر بالكلية . وهذا من غلطهم على كتاب الله ? عز وجل . قال الله تعالى
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون [ القصص : 10 - 13 ] . قال ابن عباس وغيره :
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا أي ; من كل شيء من أمور الدنيا إلا من أمر موسى
إن كادت لتبدي به أي ; لتظهر أمره وتسأل عنه جهرة .
لولا أن ربطنا على قلبها أي ; صبرناها وثبتناها
لتكون من المؤمنين وقالت لأخته وهي ابنتها الكبيرة :
قصيه أي; اتبعي أثره واطلبي لي خبره
فبصرت به عن جنب قال مجاهد : عن بعد . وقال قتادة : جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده . ولهذا قال تعالى :
وهم لا يشعرون وذلك لأن موسى ، عليه السلام ، لما استقر بدار فرعون أرادوا أن يغذوه برضاعة ، فلم يقبل ثديا ولا أخذ طعاما ، فحاروا في أمره واجتهدوا في ذلك ، أي على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل ، كما قال تعالى :
وحرمنا عليه المراضع من قبل فأرسلوه مع القوابل والنساء إلى السوق ; لعلهم يجدون من يوافق رضاعته ، فبينما هم وقوف به والناس عكوف عليه ، إذ بصرت به أخته ، واسمها مريم دلالة أخت موسى على من يقوم بإرضاعه فلم تظهر أنها تعرفه ، بل قالت :
هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون قال ابن عباس : لما قالت ذلك ، قالوا لها : ما يدريك بنصحهم وشفقتهم عليه ؟ فقالت : رغبة في صهر الملك ، ورجاء منفعته . فأطلقوها وذهبوا معها إلى منزلهم ، فأخذته أمه ، فلما أرضعته التقم ثديها وأخذ يمتصه ويرتضعه ، ففرحوا بذلك فرحا شديدا ، وذهب البشير إلى آسية يعلمها بذلك ، فاستدعتها إلى منزلها ، وعرضت عليها أن تكون عندها ، وأن تحسن إليها ، فأبت عليها وقالت : إن لي بعلا وأولادا ، ولست أقدر على هذا إلا أن ترسليه معي . فأرسلته معها ، ورتبت لها رواتب ، وأجرت عليها النفقات والكساوى والهبات ، فرجعت به تحوزه إلى رحلها ، وقد جمع الله شمله بشملها ، قال الله تعالى
فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق أي ; كما وعدناها برده ورسالته ، فهذا رده ، وهو دليل على صدق البشارة برسالته
ولكن أكثرهم لا يعلمون .
وقد امتن الله بهذا على موسى ليلة كلمه ، فقال له فيما قال له :
ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني [ طه 37 - 39 ] . وذلك أنه لا يراه أحد إلا أحبه
ولتصنع على عيني قال قتادة ، وغير واحد من السلف : أي تطعم وترفه وتغذى بأطيب المآكل ، وتلبس أحسن الملابس ; بمرأى مني ، وذلك كله بحفظي وكلاءتي لك فيما صنعت بك ولك ، وقدرته من الأمور التي لا يقدر عليها غيري
إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا [ طه : 40 ] . فلما انتهى رضاعه نتف موسى لحية فرعون حملته أمه إلى آسية ، فأخذته ترقصه وتلعب به وناولته فرعون ، فلما أخذه إليه أخذ الغلام بلحيته فنتفها ، قال فرعون : علي بالذباحين يذبحونه ، هو هذا ! قالت آسية :
لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ، إنما هو صبي لا يعقل وإنما فعل هذا من جهل ، ولقد علمت أنه ليس في مصر امرأة أكثر حليا مني ، أنا أضع له حليا من ياقوت وجمرا فإن أخذ الياقوتة فهو يعقل فاذبحه وإن أخذ الجمر فإنما هو صبي ، فأخرجت له ياقوتها ووضعت له طشتا من جمر فجاء جبريل فوضع يده على جمرة فأخذها فطرحها موسى في فمه ، فأحرقت لسانه ، فهو الذي يقول الله تعالى :
واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي . فدرأت عن موسى القتل .
وكبر موسى ، وكان يركب مركب فرعون ويلبس ما يلبس ، وإنما يدعى موسى بن فرعون ، وامتنع به بنو إسرائيل ولم يبق قبطي يظلم إسرائيليا خوفا منه .