ثم أمر الله موسى ، عليه السلام ، بالذهاب إلى فرعون ولم يزل أهله مكانهم لا يدرون ما فعل حتى مر راع من أهل مدين فعرفهم فاحتملهم إلى مدين ، فكانوا عند شعيب حتى بلغهم خبر موسى بعدما فلق البحر ، فساروا إليه .
وأما موسى فإنه سار إلى عدوه ، الذي خرج من ديار مصر فرارا من سطوته وظلمه ، حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي ولهذا
قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون أي; اجعله معي معينا وردءا ووزيرا يساعدني ويعينني على أداء رسالتك إليهم فإنه أفصح مني لسانا وأبلغ بيانا . قال الله تعالى ، مجيبا له إلى سؤاله :
سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا أي; برهانا
فلا يصلون إليكما بآياتنا أي; فلا ينالون منكما مكروها بسبب قيامكما بآياتنا . وقيل ببركة آياتنا
أنتما ومن اتبعكما الغالبون وقال في سورة " طه " :
اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي [ طه : 24 - 28 ] . قيل : إنه أصابه في لسانه لثغة; بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه ، التي كان فرعون أراد اختبار عقله ، حين أخذ بلحيته وهو صغير ، فهم بقتله ، فخافت عليه آسية ، وقالت : إنه طفل . فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه ، فهم بأخذ التمرة ، فصرف الملك يده إلى الجمرة ، فأخذها ، فوضعها على لسانه ، فأصابه لثغة بسببها ، فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله ، ولم يسأل زوالها بالكلية . قال الحسن البصري : والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة . ولهذا بقيت في لسانه بقية ، ولهذا قال فرعون ، قبحه الله ، فيما زعم إنه يعيب به الكليم :
ولا يكاد يبين [ الزخرف : 52 ] . أي يفصح عن مراده ، ويعبر عما في ضميره وفؤاده . ثم قال موسى ، عليه السلام :
واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [ طه : 29 - 36 ] . أي; قد أجبناك إلى جميع ما سألت ، وأعطيناك الذي طلبت . وهذا من وجاهته عند ربه عز وجل ، حين شفع أن يوحي الله إلى أخيه فأوحى إليه ، وهذا جاه عظيم ، قال الله تعالى : وكان عند الله وجيها [ الأحزاب : 69 ] . وقال تعالى :
ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا [ مريم : 53 ] . وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلا يقول لأناس ، وهم سائرون في طريق الحج : أي أخ أمن على أخيه؟ فسكت القوم ، فقالت عائشة لمن حول هودجها : هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه أن يكون نبيا يوحى إليه . قال الله تعالى :
ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا .
وأوحى الله إلى هارون يعلمه بقفول موسى ويأمره بتلقيه ، فخرج من مصر فالتقى به ، ذهاب موسى وهارون إلى فرعون قال موسى : يا هارون ، إن الله تعالى قد أرسلنا إلى فرعون فانطلق معي إليه . قال : سمعا وطاعة ، فلما جاء إلى بيت هارون وأظهر أنهما ينطلقان إلى فرعون سمعت ذلك ابنة هارون فصاحت أمهما فقالت : أنشدكما الله أن لا تذهبا إلى فرعون فيقتلكما جميعا ! فأبيا فانطلقا إليه ليلا ، فضربا بابه ، فقال فرعون لبوابه : من هذا الذي يضرب بابي هذه الساعة ؟ فأشرف عليهما البواب فكلمهما ، فقال له موسى : إنا رسولا رب العالمين ، فأخبر فرعون ، فأدخلا إليه .
وقيل إن موسى وهارون مكثا سنتين يغدوان إلى باب فرعون ويروحان يلتمسان الدخول إليه فلم يجسر أحد يخبره بشأنهما ، حتى أخبره مسخرة كان يضحكه بقوله ، فأمر حينئذ فرعون بإدخالهما .
وقيل إن الله عز وجل قال له :ادن ، فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة ، فاستقر وذهبت عنه الرعدة ، وجمع يديه في العصا ، وخضع برأسه وعنقه ، ثم قال: إني قد أتيتك اليوم مقاما لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك ، أدنيتك وقربتك حتى سمعت كلامي ، وكنت بأقرب الأمكنة مني ، فانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي ، فإن معك يدي وبصري ، وإني قد ألبستك جبة من سلطاني تستكمل بها القوة في أمري ، فأنت جند عظيم من جنودي ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي ، وأمن مكري ، وغرته الدنيا عني ، حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي ، وعبد [غيري] ، وزعم أنه لا يعرفني ، وإني أقسم بعزتي لولا العذر والحجة اللذان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار ، فإن أمرت السماء حصبته ، وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت [الجبال] دمرته ، وإن أمرت البحار غرقته ، ولكنه هان علي ، وسقط من عيني ، ووسعه حلمي ، واستغنيت بما عندي ، وحق لي أني أنا الغني لا غني غيري .
فبلغه رسالاتي ، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي ، وإخلاص اسمي ، وذكره بآياتي وحذره نقمتي وبأسي ، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يرعبك ما ألبسه من لباس الدنيا ، فإن ناصيته بيدي ليس يطرف ولا ينطق ولا يتنفس إلا بإذني .
قل له: أجب ربك عز وجل فإنه واسع المغفرة ، فإنه قد أمهلك أربعمائة سنة ، وفي كلها أنت مبارز لمحاربته ، تشبه وتمثل وتصد عباده عن سبله ، وهو يمطر عليك السماء ، وينبت لك الأرض ، لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب . ولو شاء أن يعجل ذلك لك أو يسلبكه فعل ، ولكنه ذو أناة ، وحلم عظيم .
وجاهده بنفسك وأخيك ، وأنتما محتسبان بجهاده ، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة -ولا قليل مني- تغلب الفئة الكثيرة بإذني .
ولا تعجبنكما زينته ، ولا ما يتمتع به ، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما ، فإنها زهرة الحياة الدنيا ، وزينة المترفين ، وإني لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما ، وكذلك أفعل بأوليائي قديما ، فأخرت لهم في ذلك ، فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة ، وإني لأجنبهم سلوتها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق عن مبارك الغرة .
وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطع الهوى .
واعلم أنه لم يتزين العباد بزينة هي أبلغ من الزهد في الدنيا ، فإنها زينة المتقين ، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع ،
سيماهم في وجوههم من أثر السجود [48: 29] .
أولئك أوليائي حقا حقا ، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك ، وذلل لهم قلبك ولسانك .
واعلم أنه من أهان لي وليا إذا خافه فقد بارزني بالمحاربة وما رآني ، وعرض نفسه [للهلكة] ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي؟ أو يظن الذي يعاديني أن يعجزني؟ أم يظن الذي بارزني أن يسبقني أو يفوتني؟ فكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة ، لا أكل نصرتهم إلى غيري؟!
قال: فأقبل موسى صلى الله عليه وسلم إلى فرعون في مدينته ، قد جعل حولها الأسد في غيضة قد غرسها ، فالأسد فيها مع ساستها ، إذا آسدتها على أحد أكل . وللمدينة أربعة أبواب في الغيضة ، فأقبل موسى عليه السلام من الطريق الأعظم الذي يراه منه فرعون ، فلما رأته الأسد صاحت صياح الثعالب ، فأنكر ذلك الساسة ، وفرقوا من فرعون .
وأقبل موسى حتى انتهى إلى الباب إلى قبة فرعون فقرعه بعصاه ، وعليه جبة صوف وسراويل صوف ، فلما رآه البواب عجب من جرأته فتركه ولم يأذن له ، وقال: هل تدري من تضرب؟ إنما تضرب باب سيدك ، قال: أنت وأنا وفرعون عبيد لربي عز وجل ، فأنا آمره ، فأخبر البواب الذي يليه والبوابين حتى بلغ ذلك أدناهم ، ودونهم سبعون حاجبا ، كل حاجب منهم تحت يده من الجنود ما شاء الله عز وجل ، كأعظم أمير اليوم إمارة ، حتى خلص الخبر إلى فرعون ، فقال: أدخلوه علي [فأدخلوه]