فلما رأى السحرة ما هالهم وحيرهم في أمرهم ، واطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم ولا بالهم ، ولا يدخل تحت صناعاتهم وأشغالهم ، فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر ، ولا شعبذة ، ولا محال ولا خيال ولا زور ولا بهتان ولا ضلال ، بل حق لا يقدر عليه إلا الحق الذي ابتعث هذا المؤيد به بالحق ، وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة ، وأنارها بما خلق فيها من الهدى وأزاح عنها القسوة ، وأنابوا إلى ربهم ، وخروا له ساجدين ، وقالوا جهرة للحاضرين ، ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى : آمنا برب موسى وهارون .

فواعدهم فرعون بالقتل ، فقالوا: فاقض ما أنت قاض [20: 72] . فرجع مغلوبا ، وأبى إلا التمادي في الكفر . كما قال تعالى : فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، والقاسم بن أبي بزة والأوزاعي ، وغيرهم : لما سجد السحرة ، رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تهيأ لهم ، وتزخرف لقدومهم ، ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون ، وتهديده ووعيده . وذلك لأن فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا وأشهروا ذكر موسى وهارون في الناس على هذه الصفة الجميلة ، أفزعه ذلك ، ورأى أمرا بهره ، وأعمى بصيرته وبصره ، وكان فيه كيد ومكر وخداع ، وصنعة بليغة في الصد عن سبيل الله ، فقال مخاطبا للسحرة بحضرة الناس : آمنتم له قبل أن آذن لكم أي; هلا شاورتموني فيما صنعتم من الأمر الفظيع بحضرة رعيتي . ثم تهدد وتوعد ، وأبرق وأرعد ، وكذب فأبعد ، قائلا : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر وقال في الآية الأخرى : إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون [ الأعراف : 123 ] . وهذا الذي قاله من البهتان الذي يعلم كل فرد عاقل ما فيه من الكفر والكذب والهذيان ، بل لا يروج مثله على الصبيان فإن الناس كلهم ، من أهل دولته وغيرهم ، يعلمون أن موسى لم يره هؤلاء يوما من الدهر ، فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر؟! ثم هو لم يجمعهم ولا علم باجتماعهم ، حتى كان فرعون هو الذي استدعاهم واجتباهم من كل فج عميق وواد سحيق ، ومن حواضر بلاد مصر والأطراف ، ومن المدن والأرياف .

والمقصود أن فرعون كذب وافترى ، وكفر غاية الكفر في قوله : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر وأتى ببهتان يعلمه العالمون ، بل العالمون في قوله : إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون وقوله : لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف يعني : يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وعكسه ، ولأصلبنكم أجمعين أي; ليجعلهم مثلة ونكالا; لئلا يقتدي بهم أحد من رعيته وأهل ملته ، ولهذا قال : ولأصلبنكم في جذوع النخل أي; على جذوع النخل; لأنها أعلى وأشهر ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى يعني : في الدنيا قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات أي; لن نطيعك ونترك ما وقر في قلوبنا من البينات ، والدلائل القاطعات ، والذي فطرنا قيل : معطوف . وقيل : قسم فاقض ما أنت قاض أي; فافعل ما قدرت عليه إنما تقضي هذه الحياة الدنيا أي; إنما حكمك علينا في هذه الحياة الدنيا ، فإذا انتقلنا منها إلى الدار الآخرة ، صرنا إلى حكم الذي أسلمنا له واتبعنا رسله إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى [ طه : 73 ] . أي; وثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب والترغيب ، وأبقى أي; وأدوم من هذه الدار الفانية . وفي الآية الأخرى : قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أي; ما اجترمناه من المآثم والمحارم أن كنا أول المؤمنين أي; من القبط ، بموسى وهارون ، عليهما السلام . وقالوا له أيضا : وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا أي ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا بما جاءنا به رسولنا ، واتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا ، ربنا أفرغ علينا صبرا أي; ثبتنا على ما ابتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد ، والسلطان الشديد ، بل الشيطان المريد ، وتوفنا مسلمين وقالوا أيضا يعظونه ويخوفونه بأس ربه العظيم : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا يقولون له : فإياك أن تكون منهم فكان منهم . ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا أي; المنازل العالية جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى فاحرص أن تكون منهم . فحالت بينه وبين ذلك الأقدار التي لا تغالب ، ولا تمانع وحكم العلي العظيم بأن فرعون ، لعنه الله ، من أهل الجحيم ، ليباشر العذاب الأليم ، يصب من فوق رأسه الحميم . ويقال له ، على وجه التقريع والتوبيخ ، وهو المقبوح المنبوح ، الذميم اللئيم : ذق إنك أنت العزيز الكريم .

[ الدخان : 49 ] . والظاهر من هذه السياقات أن فرعون ، لعنه الله ، صلبهم وعذبهم ، رضي الله عنهم . قال عبد الله بن عباس ، وعبيد بن عمير : كانوا من أول النهار سحرة ، فصاروا من آخره شهداء بررة . ويؤيد هذا قولهم : ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية