ثم إن موسى ، عليه السلام ، لما انفصل من بلاد مصر ، أمره الله تعالى /أن يسير ببني إسرائيل إلى أريحا بلد الجبارين ، وهي أرض بيت المقدس فوجد فيها قوما من الجبارين ، من الحيثانيين ، والفزاريين ، والكنعانيين ، وغيرهم فأمرهم موسى ، عليه السلام ، بالدخول عليهم ، ومقاتلتهم وإجلائهم إياهم عن بيت المقدس ، فإن الله كتبه لهم ، ووعدهم إياه ، على لسان إبراهيم الخليل ، وموسى الكليم الجليل ، فأبوا ونكلوا عن الجهاد ، فذكرهم نبي الله نعمة الله عليهم ، إحسانه عليهم بالنعم الدينية والدنيوية ، ويأمرهم بالجهاد في سبيل الله ، ومقاتلة أعدائه ، فقال : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم أي; تنكصوا على أعقابكم ، وتنكلوا على قتال أعدائكم . فتنقلبوا خاسرين أي; فتخسروا بعد الربح ، وتنقصوا بعد الكمال . قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين أي; عتاة كفرة متمردين ، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ، خافوا من هؤلاء الجبارين ، وقد عاينوا هلاك فرعون ، وهو أجبر من هؤلاء ، وأشد بأسا ، وأكثر جمعا ، وأعظم جندا . وهذا يدل على أنهم ملومون في هذه المقالة ، ومذمومون على هذه الحالة ، من الذلة عن مصاولة الأعداء ، ومقاومة المردة الأشقياء .

وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا آثارا ، فيها مجازفات كثيرة باطلة ، يدل العقل والنقل على خلافها; من أنهم كانوا أشكالا هائلة ضخاما جدا ، حتى إنهم ذكروا أن رسل بني إسرائيل ، لما قدموا عليهم ، تلقاهم رجل من رسل الجبارين ، فجعل يأخذهم واحدا واحدا ، ويلفهم في أكمامه وحجزة سراويله ، وهم اثنا عشر رجلا ، فجاء بهم ، فنثرهم بين يدي ملك الجبارين ، فقال : ما هؤلاء؟ ولم يعرف أنهم من بني آدم حتى عرفوه . وكل هذه هذيانات وخرافات لا حقيقة لها ، وأن الملك بعث معهم عنبا ، كل عنبة تكفي الرجل ، وشيئا من ثمارهم; ليعلموا ضخامة أشكالهم ، وهذا ليس بصحيح . ولو كان هذا صحيحا لكان بنو إسرائيل معذورين في النكول عن قتالهم ، وقد ذمهم الله على نكولهم ، وعاقبهم بالتيه على ترك جهادهم ، ومخالفتهم رسولهم ، وقد أشار عليهم رجلان صالحان منهم بالإقدام ، ونهياهم عن الإحجام . ويقال : إنهما يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وغير واحد .

قال رجلان من الذين يخافون أي; يخافون الله وقرأ بعضهم : ( يخافون ) ; أي يهابون ، أنعم الله عليهما أي; بالإسلام ، والإيمان ، والطاعة ، والشجاعة : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين أي; إذا توكلتم على الله ، واستعنتم به ، ولجأتم إليه ، نصركم على عدوكم ، وأيدكم عليهم ، وأظفركم بهم .

قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون فصمم ملؤهم علىالنكول عن الجهاد ، ووقع أمر عظيم ، ووهن كبير . فيقال : إن يوشع ، وكالب لما سمعا هذا الكلام شقا ثيابهما ، وإن موسى وهارون ، عليهما السلام ، سجدا; إعظاما لهذا الكلام وغضبا لله عز وجل ، وشفقة عليهم من وبيل هذه المقالة .

قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال ابن عباس : اقض بيني وبينهم . قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين عوقبوا على نكولهم بالتيهان في الأرض ، يسيروا إلى غير مقصد ، ليلا ونهارا ، وصباحا ومساء . ويقال : إنه لم يخرج أحد من التيه ممن دخله ، بل ماتوا كلهم في مدة أربعين سنة ، ولم يبق إلا ذراريهم سوى يوشع ، وكالب ، عليهما السلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية