لما أهلك الله فرعون وأنجى بني إسرائيل قالوا : يا موسى ائتنا بالكتاب الذي وعدتنا . فسأل موسى ربه ذلك ، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما ويتطهر ويطهر ثيابه ويأتي إلى الجبل - جبل طور سينا - ليكلمه ويعطيه الكتاب ، فصام ثلاثين يوما قال جماعة من السلف; منهم ابن عباس ، ومسروق ، ومجاهد : الثلاثون ليلة هي; شهر ذي القعدة بكماله ، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحجة . فعلى هذا يكون كلام الله له يوم عيد النحر ، وفي مثله أكمل الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه ، وأقام حجته وبراهينه .

والمقصود أن موسى ، عليه السلام ، لما استكمل الميقات ، وكان فيه صائما ، يقال : إنه لم يستطعم الطعام . فلما كمل الشهر أخذ لحا شجرة فمضغه ، ليطيب ريح فمه ، فأمر الله أن يمسك عشرا أخرى ، فصارت أربعين ليلة . ولهذا ثبت في الحديث أن : خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فلما عزم على الذهاب ، استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هارون المحبب المبجل الجليل ، وهو ابن أمه وأبيه ، ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه ، فوصاه وأمره ونهاه ، وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة ، قال الله تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا أي; في الوقت الذي أمر بالمجيء فيه ، وكلمه ربه أي; كلمه الله من وراء حجاب ، إلا أنه أسمعه الخطاب ، فناداه وناجاه ، وقربه وأدناه ، وهذا مقام رفيع ، ومعقل منيع ، ومنصب شريف ، ومنزل منيف ، فصلوات الله عليه تترى وسلامه عليه في الدنيا والأخرى . ولما أعطي هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية ، وسمع الخطاب ، سأل رفع الحجاب ، فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار ، القوي البرهان : ربي أرني أنظر إليك قال لن تراني ثم بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى; لأن الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتا ، وأشد ثباتا من الإنسان ، لا يثبت عند التجلي من الرحمن ، ولهذا قال : ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني .

وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال له : يا موسى ، إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده . وفي " الصحيحين " ، عن أبي موسى ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : حجابه النور وفي رواية : النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وقال ابن عباس ، في قوله تعالى : لا تدركه الأبصار ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء; ولهذا قال تعالى : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال مجاهد : ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فإنه أكبر منك وأشد خلقا ، فلما تجلى ربه للجبل فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل فدك على أوله ، ورأى موسى ما يصنع الجبل ، فخر صعقا . وروى الإمام أحمد بسنده عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا قال : هكذا بأصبعه ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل . لفظ ابن جرير وعن ابن عباس : ما تجلى - يعني من العظمة - إلا قدر الخنصر ، فجعل الجبل دكا ، قال : ترابا وخر موسى صعقا أي مغشيا عليه . وقال قتادة : ميتا . والصحيح الأول; لقوله : فلما أفاق فإن الإفاقة إنما تكون عن غشي . قال : سبحانك تنزيه ، وتعظيم ، وإجلال أن يراه بعظمته أحد . تبت إليك أي : فلست أسأل بعد هذا الرؤية : وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده .

وقد ثبت في " الصحيحين " عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة الطور لفظ البخاري ، نزول التوراة على موسى وقال الله تعالى : وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء وكانت الألواح من جوهر نفيس ، ففي " الصحيح " أن الله كتب له التوراة بيده وفيها مواعظ عن الآثام ، وتفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، فخذها بقوة أي; بعزم ونية صادقة قوية ، وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أي ، يضعوها على أحسن وجوهها ، وأجمل محاملها ، سأوريكم دار الفاسقين أي; ستروا عاقبة الخارجين عن طاعتي ، المخالفين لأمري ، المكذبين لرسلي . سأصرف عن آياتي أي; عن فهمها ، وتدبرها ، وتعقل معناها الذي أريد منها ، ودل عليه مقتضاها ، الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها أي; ولو شاهدوا مهما شاهدوا من الخوارق ، والمعجزات ، لا ينقادوا لاتباعها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا أي; لا يسلكوه ، ولا يتبعوه وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا أي; صرفناهم عن ذلك; لتكذيبهم بآياتنا ، وتغافلهم عنها ، وإعراضهم عن التصديق بها ، والتفكر في معناها ، وترك العمل بمقتضاها ، والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون . وعاد موسى ولا يقدر أحد أن ينظر إليه ، وكان يجعل عليه حريرة نحو أربعين يوما ، ثم يكشفها لما تغشاه من النور.

التالي السابق


الخدمات العلمية