ذكر ولادة المسيح ، عليه السلام

كانت ولادة المسيح أيام ملوك الطوائف . قالت المجوس : كان ذلك بعد خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل ، وبعد إحدى وخمسين سنة مضت من ملك الأشكانيين . وقالت النصارى : إن ولادته كانت لمضي ثلاثمائة وثلاث وستين سنة من وقت غلبة الإسكندر على أرض بابل ، وزعموا أن مولد يحيى كان قبل مولد المسيح بستة أشهر ، وأن مريم ، عليها السلام ، حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة ، وقيل خمس عشرة ، وقيل : عشرون ، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما ، وأن مريم عاشت بعده ست سنين ، فكان جميع عمرها إحدى وخمسين سنة ، وأن يحيى قتل قبل أن يرفع المسيح ، وأتت المسيح النبوة والرسالة وعمره ثلاثون سنة . فحملته فانتبذت به مكانا قصيا عقبة بالفاء .

فلما أحست مريم خرجت إلى جانب المحراب الشرقي فأتت أقصاه فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت - وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس - يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، يعني نسي ذكري وأثري فلا يرى لي أثر ولا عين . قالت مريم : كنت إذا خلوت حدثني عيسى وحدثته ، فإذا كان عندنا إنسان سمعت تسبيحه في بطني . فناداها جبرائيل من تحتها - أي من أسفل الجبل - أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهو النهر الصغير ، أجراه تحتها ، فمن قرأ : من تحتها ، بكسر الميم ، جعل المنادي جبرائيل ، ومن فتحها قال إنه عيسى ، أنطقه الله ، وهزي إليك بجذع النخلة ، كان جذعا مقطوعا فهزته فإذا هو نخلة ، وقيل : كان مقطوعا فلما أجهدها الطلق احتضنته فاستقام واخضر وأرطب ، فقيل لها : وهزي إليك بجذع النخلة فهزته فتساقط الرطب فقال لها : فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ، وكان من صام في ذلك الزمان لا يتكلم حتى يمسي . ذهاب مريم بعيسى عليه السلام إلى أرض مصر

وقيل : إنه لما دنا نفاسها أوحى الله إليها : أن اخرجي من أرض قومك فإنهم إذا ظفروا بك عيروك وقتلوك وولدك . فاحتملها يوسف النجار وسار بها إلى أرض مصر ، فلما وصلا إلى تخوم مصر أدركها المخاض ، فلما وضعت وهي محزونة قيل لها : لا تحزني الآية إلى ( إنسيا ) ، فكان الرطب يتساقط عليها وذلك في الشتاء .

وأصبحت الأصنام منكوسة على رءوسها ، وفزعت الشياطين فجاءوا إلى إبليس ، فلما رأى جماعتهم سألهم فأخبروه ، فقال : قد حدث في الأرض حادث ، فطار عند ذلك وغاب عنهم فمر بالمكان الذي ولد فيه عيسى فرأى الملائكة محدقين فيه ، فعلم أن الحدث فيه ، ولم تمكنه الملائكة من الدنو من عيسى ، فعاد إلى أصحابه وأعلمهم بذلك وقال لهم : ما ولدت امرأة إلا وأنا حاضر ، وإني لأرجو أن أضل به أكثر ممن يهتدي .

واحتملته مريم إلى أرض مصر فمكثت اثنتي عشرة سنة تكتمه من الناس ، فكانت تلتقط السنبل والمهد في منكبيها .

قلت : والقول الأول في ولادته بأرض قومها للقرآن أصح لقوله تعالى : فأتت به قومها تحمله ، وقوله كيف نكلم من كان في المهد صبيا .

وقيل : إن مريم حملت المسيح إلى مصر بعد ولادته ومعها يوسف النجار ، وهي الربوة التي ذكرها الله تعالى ، وقيل : الربوة دمشق ، وقيل : بيت المقدس ، وقيل غير ذلك ، فكان سبب ذلك الخوف من ملك بني إسرائيل ، وكان من الروم ، واسمه هيرودس ، فإن اليهود أغروه بقتله ، فساروا إلى مصر وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة إلى أن مات ذلك الملك ، وعادوا إلى الشام ، وقيل : إن هيرودس لم يرد قتله ولم يسمع به إلا بعد رفعه ، وإنما خافوا اليهود عليه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية