وقال تعالى : وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور وقال تعالى : وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس [ البقرة : 87 ] . والآيات في ذلك كثيرة جدا . وقد تقدم ما ثبت في " الصحيحين " : ما من مولود إلا والشيطان يطعن في خاصرته حين يولد ، فيستهل صارخا إلا مريم وابنها ، ذهب يطعن فطعن في الحجاب وتقدم حديث عمير بن هانئ ، عن جنادة عن عبادة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل وعن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أدب الرجل أمته ، فأحسن تأديبها ، وعلمها فأحسن تعليمها ، ثم أعتقها ، فتزوجها كان له أجران ، وإذا آمن بعيسى ابن مريم ثم آمن بي ، فله أجران ، والعبد إذا اتقى ربه وأطاع مواليه ، فله أجران هذا لفظ البخاري .

وعن أبي هريرة ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به : لقيت موسى قال : فنعته فإذا رجل حسبته قال : مضطرب رجل الرأس ، كأنه من رجال شنوءة . قال : ولقيت عيسى فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس ، يعني الحمام ، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به الحديث . وقد تقدم في قصتي إبراهيم وموسى . وعن ابن عمر ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : رأيت عيسى ، وموسى ، وإبراهيم ، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر ، وأما موسى فآدم جسيم سبط كأنه من رجال الزط وعن نافع ، قال : قال عبد الله بن عمر : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال ، فقال : إن الله ليس بأعور ، إلا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى ، كأن عينه عنبة طافية ، وأراني الليلة عند الكعبة في المنام ، فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من أدم الرجال ، تضرب لمته بين منكبيه ، رجل الشعر ، يقطر رأسه ماء ، واضعا يديه على منكبي رجلين ، وهو يطوف بالبيت ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : المسيح ابن مريم . ثم رأيت رجلا وراءه جعدا قططا أعور عين اليمنى كأشبه من رأيت بابن قطن ، واضعا يده على منكبي رجل يطوف بالبيت ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : المسيح الدجال . قال الزهري : وابن قطن رجل من خزاعة ، هلك في الجاهلية . فبين ، صلوات الله وسلامه عليه ، صفة المسيحين ; مسيح الهدى ومسيح الضلالة; ليعرف هذا إذا نزل ، فيؤمن به المؤمنون ، ويعرف الآخر فيحذره الموحدون .

وقال البخاري : وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : رأى عيسى ابن مريم رجلا يسرق فقال له : أسرقت ؟ قال : كلا ، والذي لا إله إلا هو . فقال عيسى : آمنت بالله وكذبت عيني وهذا يدل على سجية طاهرة ; حيث قدم حلف ذلك الرجل - وظن أن أحدا لا يحلف بعظمة الله كاذبا - على ما شاهده منه عيانا ، فقبل عذره ، ورجع على نفسه ، فقال : آمنت بالله . أي : صدقتك . وكذبت بصري ; لأجل حلفك .

وعن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحشرون حفاة عراة غرلا ثم قرأ : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين فأول الخلق يكسى إبراهيم ، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال ، فأقول : أصحابي . فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم . فأقول كما قال العبد الصالح عيسى ابن مريم : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم . عن ابن عباس ، سمع عمر يقول على المنبر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله .

وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له : جريج . يصلي إذ جاءته أمه فدعته ، فقال : أجيبها أو أصلي ؟ فقالت : اللهم لاتمته حتى تريه وجوه المومسات . وكان جريج في صومعته ، فعرضت له امرأة وكلمته ، فأبى ، فأتت راعيا فأمكنته من نفسها ، فولدت غلاما ، فقيل لها : ممن ؟ فقالت : من جريج . فأتوه وكسروا صومعته ، فأنزلوه وسبوه فتوضأ وصلى ، ثم أتى الغلام فقال : من أبوك يا غلام ؟ قال : فلان الراعي . قالوا : أنبني صومعتك من ذهب ؟ قال : لا ، إلا من طين . وكانت امرأة ترضع ابنا لها في بني إسرائيل ، فمر بها رجل راكب ذو شارة ، فقالت : اللهم اجعل ابني مثله . فترك ثديها وأقبل على الراكب ، فقال : اللهم لا تجعلني مثله . ثم أقبل على ثديها يمصه قال أبو هريرة : كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص أصبعه : ثم مر بأمة فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثل هذه . فترك ثديها ، فقال : اللهم اجعلني مثلها . فقالت : لم ذلك ؟ فقال : الراكب جبار من الجبابرة ، وهذه الأمة يقولون : سرقت وزنيت . ولم تفعل .

وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الأنبياء إخوة لعلات ، ودينهم واحد وأمهاتهم شتى ، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ; لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، سبط كأن رأسه يقطر ، وإن لم يصبه بلل ، بين ممصرتين ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويعطل الملل ، حتى تهلك في زمانه الملل كلها غير الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب ، وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعا ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات ، لا يضر بعضهم بعضا ، فيمكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم يتوفى ، فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه . وقال : فيمكث أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون وروى هشام بن عروة ، عن صالح مولى أبي هريرة ، عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فيمكث في الأرض أربعين سنة وسيأتي بيان نزوله ، عليه السلام ، في آخر الزمان في كتاب " الملاحم " كما بسطنا ذلك أيضا في " التفسير " عند قوله تعالى في سورة " النساء " : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا وقوله : وإنه لعلم للساعة الآية . وإنه ينزل على المنارة البيضاء بدمشق ، وقد أقيمت صلاة الصبح ، فيقول له إمام المسلمين : تقدم يا روح الله فصل . فيقول : لا ، بعضكم على بعض أمراء ، تكرمة الله هذه الأمة . وفي رواية : فيقول له عيسى : إنما أقيمت الصلاة لك . فيصلي خلفه ، ثم يركب ومعه المسلمون في طلب المسيح الدجال ، فيلحقه عند باب لد ، فيقتله بيده الكريمة . وذكرنا أنه قوي الرجاء حين بنيت هذه المنارة الشرقية بدمشق التي هي من حجارة بيض ، وقد بنيت أيضا من أموال النصارى حين حرقوا التي هدمت وما حولها ، فينزل عليها عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام ، وأنه يحج من فج الروحاء ، حاجا أو معتمرا ، أو لثنتيهما ، ويقيم أربعين سنة ثم يموت فيدفن - فيما قيل - في الحجرة النبوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه . وقد ورد في ذلك حديث أنه يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعمر في الحجرة النبوية ، ولكن لا يصح إسناده .

وعن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن أبيه ، عن جده ، قال : مكتوب في التوراة صفة محمد ، وعيسى ابن مريم ، عليهما السلام ، يدفن معه . قال أبو مودود : وقد بقي في البيت موضع قبر . وعن سلمان ، قال : الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، ستمائة سنة . وعن قتادة : خمسمائة وستون سنة . وقيل : خمسمائة وأربعون سنة . وعن الضحاك : أربعمائة وبضع وثلاثون سنة . والمشهور ستمائة سنة . ومنهم من يقول : ستمائة وعشرون سنة بالقمرية فتكون ستمائة بالشمسية . والله أعلم .

وعن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد قبض الله داود من بين أصحابه فما فتنوا ولا بدلوا ، ولقد مكث أصحاب المسيح على سنته وهديه مائتي سنة وهذا حديث غريب جدا ، وإن صححه ابن حبان . وذكر ابن جرير ، عن محمد بن إسحاق ، أن عيسى ، عليه السلام ، قبل أن يرفع وصى الحواريين بأن يدعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وعين كل واحد منهم إلى طائفة من الناس في إقليم من الأقاليم من الشام والمشرق ، وبلاد المغرب ، فذكروا أنه أصبح كل إنسان منهم يتكلم بلغة الذين أرسله المسيح إليهم . وذكر غير واحد أن الإنجيل نقله عنه أربعة : لوقا ، ومتى ومرقس ، ويوحنا . وبين هذه الأناجيل الأربعة تفاوت كثير بالنسبة إلى كل نسخة ونسخة ، وزيادات كثيرة ونقص بالنسبة إلى الأخرى ، وهؤلاء الأربعة منهم اثنان ممن أدرك المسيح ورآه ، وهما متى ويوحنا ومنهم اثنان من أصحاب أصحابه . والله أعلم . وهما مرقس ولوقا . وكان ممن آمن بالمسيح وصدقه من أهل دمشق رجل يقال له : ضينا ، وكان مختفيا في مغارة داخل الباب الشرقي قريبا من الكنيسة المصلبة ; خوفا من بولص اليهودي ، وكان ظالما غاشما مبغضا للمسيح ، ولما جاء به . وكان قد حلق رأس ابن أخيه حين آمن بالمسيح ، وطاف به في البلد ثم رجمه حتى مات ، رحمه الله . ولما سمع بولص أن المسيح ، عليه السلام ، قد توجه نحو دمشق جهز بغاله وخرج ليقتله فتلقاه عند كوكبا ، فلما واجه أصحاب المسيح ، جاء إليه ملك فضرب وجهه بطرف جناحه فأعماه ، فلما رأى ذلك وقع في نفسه تصديق المسيح ، فجاء إليه واعتذر مما صنع ، وآمن به فقبل منه ، وسأله أن يمسح عينيه ; ليرد الله عليه بصره ، فقال : اذهب إلى ضينا عندك بدمشق في طرف السوق المستطيل من المشرق ، فهو يدعو لك . فجاء إليه فدعا ، فرد عليه بصره ، وحسن إيمان بولص بالمسيح ، عليه السلام ، أنه عبد الله ورسوله ، وبنيت له كنيسة باسمه ، فهي كنيسة بولص المشهورة بدمشق ، من زمن فتحها الصحابة ، رضي الله عنهم ، حتى خربت في الزمان الذي سنورده . إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية