فلما ضاق الحال -يعني على مريم عليها السلام-، وانحصر المجال وامتنع المقال ، عظم التوكل على ذي الجلال ، ولم يبق إلا الإخلاص والاتكال فأشارت إليه أي : خاطبوه وكلموه ; فإن جوابكم عليه ، وما تبغون من الكلام لديه . فعندها قال من كان منهم جبارا شقيا : كيف نكلم من كان في المهد صبيا أي : كيف تحيليننا في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب ، وهو مع ذلك رضيع في مهده ، ولا يميز بين محض وزبده ، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والاستهزاء ، والتنقص لنا والازدراء ; إذ لا تردين علينا قولا نطقيا ، بل تحيلين في الجواب على من كان في المهد صبيا ، فعندها قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا هذا أول كلام تفوه به عيسى ابن مريم ، فكان أول ما تكلم به أن قال إني عبد الله اعترف لربه تعالى بالعبودية ، وأن الله ربه ، فنزه جناب الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله ، بل هو عبده ورسوله وابن أمته ، ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون ، وقذفوها به ورموها بسببه بقوله : آتاني الكتاب وجعلني نبيا فإن الله لا يعطي النبوة من هو كما زعموا ، لعنهم الله وقبحهم ، كما قال تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ النساء : 156 ] . وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان قالوا : إنها حملت به من زنا في زمن الحيض ، لعنهم الله . فبرأها الله من ذلك ، وأخبر عنها أنها صديقة ، واتخذ ولدها نبيا مرسلا ، أحد أولي العزم الخمسة الكبار ، ولهذا قال : وجعلني مباركا أين ما كنت وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونزه جنابه عن النقص والعيب ; من اتخاذ الصاحبة والولد ، تعالى وتقدس . وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد ; بالصلاة ، والإحسان إلى الخليقة بالزكاة ، وهي تشتمل على طهارة النفوس من الأخلاق الرذيلة ، وتطهير الأموال الجزيلة بالعطية للمحاويج ، على اختلاف الأصناف ، وقرى الأضياف ، والنفقات على الزوجات ، والأرقاء ، والقرابات ، وسائر وجوه الطاعات وأنواع القربات ، ثم قال : وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا أي : وجعلني برا بوالدتي ، وذلك أنه تأكد حقها عليه ، لتمحض جهتها ، إذ لا والد له سواها ، فسبحان من خلق الخليقة وبرأها ، وأعطى كل نفس هداها . ولم يجعلني جبارا شقيا أي : لست بفظ ولا غليظ ، ولا يصدر مني قول ولا فعل ينافي أمر الله وطاعته . والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا وهذه المواطن الثلاثة التي تقدم الكلام عليها في قصة يحيى بن زكريا ، عليهما السلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية