ذكر حوادث مرت عقيب رفع عيسى عليه السلام
فمنها
افتراق العقائد :
عن محمد بن كعب القرظي ، قال: لما رفع عيسى عليه السلام اجتمع من علماء بني إسرائيل مائة رجل ، فقال بعضهم لبعض: أنتم كثير ونتخوف الفرقة ، ليخرج بعضكم . فأخرجوا عشرة عشرة حتى بقت عشرة ، فقالوا: أنتم كثير ، أخرجوا بعضكم ، فأخرجوا ستة وبقي أربعة ، إليهم ينتهي علم بني إسرائيل ، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى ؟ فقال رجل منهم: أتعلمون أن أحدا يحيى الموتى إلا الله ؟ قالوا: لا . قال: أتعلمون أن أحدا يعلم الغيب إلا الله ؟ قالوا: لا ، قال: أتعلمون أن أحدا يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله ؟ قالوا: لا . قال: فإنه هو الله كان في الأرض ما بدا له ، ثم صعد إلى السماء حين بدا له .
فقال الآخر: أنا لا أقول كما [ قلت ، قد عرفنا عيسى وعرفنا أمه ، بل هو ولده .
فقال الآخر: لا أقول كما ] قلتما ، ولكن جاءت به أمه من عمل غير صالح .
فقال الآخر: لا أقول كما تقولون ، قد كان عيسى يخبركم أنه عبد الله وروح الله وكلمته ألقاها إلى مريم فقولوا كما قال لنفسه .
فتفرقوا فخرج رجل منهم فسألوه: ما قلت ؟ قال: قلت هو الله ، فاتبعه عنق من الناس . ثم قالوا للآخر: ما قلت ؟ قال: قلت هو ولده ، فاتبعه عنق من الناس ، ثم خرج الثالث فقالوا: ما قلت ؟ قال: قلت جاءت به أمه من عمل غير صالح ، [ فاتبعه عنق من الناس ] ثم خرج الآخر ، فقالوا: ما قلت ؟ قال: قلت هو عبد الله وروح الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، فاتبعه عنق من الناس .
وعن قتادة قال: ذكر لنا أنه لما رفع عيسى عليه السلام انتخب أربعة من فقهائهم فقالوا للأول: ما تقول في عيسى ؟ قال: هو الله [ هبط إلى الأرض فخلق ما خلق وأحيا ما أحيا ] ثم صعد إلى السماء . فاتبعه على ذلك ناس ، فكانت اليعقوبية من النصارى .
فقالت الثلاثة الأخر: نشهد أنك كاذب ، فقالوا للثاني: ما تقول في عيسى ؟
فقال: هو ابن الله . وتابعه على ذلك ناس ، فكانت النسطورية من النصارى .
فقال الاثنان الآخران: نشهد أنك كاذب ، فقالوا للثالث: ما تقول في عيسى ؟
فقال: هو إله ، وأمه إله ، والله إله ، فبايعه على ذلك ناس . فكانت الإسرائيلية من النصارى الذي يقال دين الملك .
فقال الرابع: أشهد أنك كاذب ، ولكنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروحه .
فاختصم القوم ، فقال المرء المسلم: أنشدكم الله ، أتعلمون أن عيسى كان يطعم الطعام ؟ قالوا: نعم . قال: وهل تعلمون أن الله لا يطعم الطعام ؟ قالوا: اللهم نعم ، قال: فأنشدكم الله ، أتعلمون أن عيسى كان ينام ؟ قالوا: نعم ، قال: فهل تعلمون أن الله عز وجل لا ينام ؟ قالوا: نعم . قال: فخصمهم .
ومن الأحداث بعد رفع عيسى ابن مريم عليهما السلام
وفاة مريم عليها السلام :
فإنها بقيت بعد رفعه ست سنين ، وكان جميع عمرها نيفا وخمسين سنة .
حرب الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام
قال ابن إسحاق : لما قصدت اليهود عيسى عليه السلام فصلبوا الذي شبه به ، عدوا على الحواريين فشمسوهم وعذبوهم وطافوا بهم ، فسمع بذلك ملك الروم - وكانوا تحت يده ، وكان صاحب وثن - فقيل له: إن رجلا كان في هؤلاء الناس الذين تحت يديك من بني إسرائيل عدوا عليه فقتلوه ، وكان يخبرهم أنه رسول الله ، قد أراهم العجائب ، وأحيا لهم الموتى ، وأبرأ لهم الأسقام ، وأخبرهم بالغيوب . قال: ويحكم ، فما منعكم أن تذكروا هذا لي ، فوالله لو علمت فما خليت بينهم وبينه . ثم بعث فانتزع الحواريين من أيديهم ، وسألهم عن دين عيسى وأمره ، فأخبروه خبره ، فبايعهم على دينهم ، وأخذ الخشبة التي صلب عليها فأكرمها وصانها لما مسها منه . وقتل في بني إسرائيل قتلى كثيرة ، فمن هنالك كان أصل النصرانية في الروم .
قال وهب بن منبه : اجتمع الحواريون بعد رفع عيسى ، فقالوا: نريد أن نخرج دعاة في الأرض ، وكان ممن توجه إلى الروم : نسطور ، وصاحبان له . فأما نسطور فحبسته حاجة ، فقال لصاحبيه: أرفقا ولا تحرقا ولا تستبطئاني . فلما قدما الكورة ، إذا قوم في يوم عيدهم ، وقد برز ملكهم وأهل مملكته ، فأتاه الرجلان فقاما بين يديه فقالا له: اتق الله ، فإنكم تعملون بالمعاصي وتنتهكون حرم الله . فغضب الملك وهم بقتلهما ، فقام إليه نفر من أهل مملكته ، فقالوا: إن هذا يوم لا تهريق فيه دماء ، وقد ظفرت بصاحبيك ، فإن أحببت أن تحبسهما حتى يمضي عيدنا ثم ترى فيهما رأيك فعلت .
فأمر بحبسهما ، ثم ضرب على أذنه بالنسيان لهما حتى قدم نسطور ، فسأل عنهما فأخبر بشأنهما وأنهما محبوسان في السجن ، فدخل عليهما ، فقال: ألم أقل لكما أرفقا ، ولا تحرقا ، ولا تستبطئاني ، فهل تدريان ما مثلكما ؟ [ مثلكما ] مثل امرأة لم تصب واحدا حتى دخلت في السن ، فأصابت بعد ما دخلت في السن ولدا ، فأحبت أن يعجل شبابه حتى يكبر ، فحملت على معدته ما لا يطيق فقتلته . ثم قال لهما: والآن فلا تستبطئاني حتى آتي إلى باب الملك .
فأتاه وقد جلس للناس ، وكانوا إذا ابتلوا بحرام وبحلال رفعوه إلى الملك ، فنظر فيه ثم سأل عنه ما يليه ، وسأل الناس بعضهم بعضا حتى ينتهي إلى أقصى المجلس . فجلس نسطور في أقصى المجلس ، فلما ردوا على الملك جواب من أجابه ، وردوا عليه جواب نسطور ، فسمع بشيء عليه نور ، [ وحلا ] في مسامعه ، فقال: من صاحب هذا القول ؟ قالوا: الرجل الذي في أقصى المجلس ، قال: علي به . فلما جاءه قال: أنت القائل كذا ؟ قال: نعم ، قال: فما تقول في كذا وكذا ؟ فجعل لا يسأله عن شيء إلا فسره له ، فقال له الملك: عندك هذا العلم وأنت تجلس في آخر القوم ؟ ضعوا له عند سريري مجلسا . ثم قال له: إن أتاك ابني فلا تقم له .
ثم أقبل على نسطور وترك الناس ، فلما عرف أن منزلته قد ثبتت ، قال: لأروزنه . فقال: أيها الملك ، أنا رجل بعيد الدار ، فإن أحببت أن تقضي حاجتك مني فأذن لي فأنصرف إلى أهلي ، فقال: يا نسطور ، ما إلى ذلك سبيل ، فإن أردت أن تحمل أهلك إلينا فلك المواساة ، وإن [ أحببت أن ] تأخذ من بيت المال حاجتك فتبعث به إلى أهلك فعلت . فسكت نسطور .
ثم تخير يوما مات لهم فيه ميت ، فقال: أيها الملك ، بلغني أن رجلين أتياك يعيبان عليك دينك . قال: فذكرهما ، فأرسل إليهما ، فقال: يا نسطور ، أنت حكم بيني وبينهما ، ما قلت من شيء رضيت به ، قال: نعم ، أيها الملك ، هذا ميت قد مات في بني إسرائيل ، فمرهما يدعوان ربهما فيحييه لهما ، ففي ذلك آية بينة .
قال: فأتي بالميت فوضع عنده ، وقاما وتوضئا ودعوا ربهما ، فرد عليه روحه وتكلم ، فقال: أيها الملك [ إن ] في هذا لآية بينة ، ولكن مرهما بغير ذلك ، اجمع أهل مملكتك ، ثم قل لآلهتك ، فإن كنت تقدر على أن تضر بهما فليس أمرهما بشيء ، وإن كانا يقدران على أن يضرا آلهتك فأمرهما قوي .
فجمع الملك أهل مملكته ، ودخل البهو الذي فيه الآلهة ، فخر ساجدا هو ومن معه من أهل مملكته ، وخر نسطور ساجدا ، وقال: اللهم إني أسجد لك وأكيد هذه الآلهة أن تعبد من دونك ، ثم رفع الملك رأسه وقال: إن هذين يريدان أن يبدلا دينكم ، ويدعوا إلى إله غيركم ، فافقئوا أعينهم ، أو جدعوهما . فلم ترد عليه الآلهة شيئا ، فقام نسطور وأمر صاحبيه أن يحملا معهما فأسا ، فقال: أيها الملك ، قل لهذين: أتقدران على أن تضرا آلهتي . [ فقال لهما: أتقدران على أن تضرا آلهتنا ؟ ] قالا: خل بيننا وبينهم . ففعل ، فأقبلا عليها فكسراها ، فقال نسطور : أما أنا فقد آمنت برب هذين . وقال الملك: وأنا فقد آمنت برب هذين . وقال جميع الناس: آمنا برب هذين ، فقال نسطور لصاحبيه: هكذا الرفق .