ذكر وفاته
قد روينا أن الخضر شرب من عين الحياة ، وفاتت ذا القرنين ، فزعم أقوام أنها لما فاتته اغتم ، فقال له الحساب: لا تحزن؛ إنا نرى لك مدة وإنك لا تموت إلا على أرض من حديد ، وسماء من خشب ، فانصرف راجعا يريد الروم ، فأقبل يدفن كنوز كل أرض بها ، ويكتب ذكر ذلك ومبلغ ما دفن وموضعه ، وحمل الكتاب معه حتى بلغ بابل ، فرعف وهو في مسير ، فسقط عن دابته ، فبسط له درع ، وكانت الدرع إذ ذاك صفائح ، فنام على تلك الدرع ، فآذته الشمس ، فدعوا ترسا فأظلوه تطرفا ، فإذا هو مضطجع على حديد وفوقه خشب ، فقال: هذه أرض من حديد وسماء من خشب ، فأيقن الموت . كتابه إلى أمه يعزيها عن نفسه
عن عبد الله بن زياد ، قال: حدثني بعض من قرأ الكتب: أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها بلغ أرض بابل ، فمرض مرضا شديدا أشفق من مرضه أن يموت بعدما دوخ البلاد ، وجمع الأموال ، فنزل بابل فدعا كاتبه ، فقال: خفف علي في الموتة بكتاب تكتبه إلى أمي تعزيها بي ، واستعن ببعض علماء أهل فارس ، ثم اقرأه [علي] فكتب الكتاب .
بسم الله الرحمن الرحيم ، من الإسكندر بن قيصر رفيق أهل الأرض بجسده قليلا ، ورفيق أهل السماء بروحه طويلا ، إلى أمه روقية ذات الصفاء التي لم تمتع بثمرتها في دار القرب ، وهي مجاورته عما قليل في دار البعد ، يا أمتاه ، يا ذات الحكمة أسألك برحمتي وودي وولادتك إياي ، هل وجدت لشيء قرارا باقيا وخيالا دائما ، ألم تري إلى الشجرة كيف تنضر أغصانها وتخرج ثمرتها وتلتف أوراقها ثم لا يلبث الغصن أن يتهشم ، والثمر أن يتساقط ، والورق أن يتباين؟! ألم تري النبت الأزهر يصبح نضيرا ثم يمسي هشيما؟! ألم تري إلى النهار المضيء ثم يخلفه الليل المظلم؟! ألم تري إلى القمر الزاهر ليلة بدره كيف يغشاه الكسوف؟! ألم تري إلى شهب النار الموقدة ما أوشك ما تخمد؟! ألم تري إلى عذب المياه الصافية ما أسرعها إلى البحور المتغيرة؟! ألم تري إلى هذا الخلق كيف يعيش في الدنيا قد امتلأت منه الآفاق ، واستعلت به الأشياء ، وولهت به الأبصار والقلوب؟! إنما هما شيئان: إما مولود وإما ميت ، كلاهما مقرون بالفناء ، ألم تري أنه قيل لهذه الدار: روحي بأهلك فإنك لست لهم بدار؟! يا واهبة الموت ، ويا مورثة الأحزان ، ويا مفرقة بين الأحبة ، ويا مخربة العمران ، ألم تري إلى كل مخلوق يجري على ما لا يدري؟ هل رأيت يا أماه معطيا لا يأخذ ، ومقرضا لا يتقاضى ، ومستودعا لا يسترد وديعته؟! يا أماه إن كان أحد بالبكاء حقيقا فلتبك السماء على نجومها ، ولتبك الحيتان على بحورها وليبك الجو على طائره ، ولتبك الأرض على أولادها والنبت الذي يخرج منها ، وليبك الإنسان على نفسه التي تموت في كل ساعة وعند كل طرفة .
يا أمتاه إن الموت لا يعتقني من أجل أني كنت عارفا أنه نازل بي ، فلا يتعبك الحزن فإنك لم تكوني جاهلة بأني من الذين يموتون . يا أمتاه إني كتبت كتابي هذا وأنا أرجو أن تعتبري به ، ويحسن موقعه منك ، فلا تخلفي ظني ولا تحزني روحي ، يا أمتاه إني قد علمت يقينا أن الذي أذهب إليه خير من مكاني الذي أنا فيه ، وأطهر من الهموم والأحزان والأسقام والنصب والأمراض ، فاغتبطي لي بمذهبي ، واستعدي لاتباعي ، يا أمتاه إن ذكري قد انقطع من الدنيا وما كنت أذكر به من الملك والرأي ، فاجعلي لي من بعدي ذكرا أذكر به في حلمك وصبرك والرضا [بما يقول الحكماء ، يا أمتاه إن الناس سينظرون إلى هذا منك وهم راض وكاره ومستمع وقائل ، فأحسني إلي وإلى نفسك في ذلك ، يا أمتاه السلام في هذا الدار قليل زائل فليكن عليك] وعلينا في دار الأزل السلام الدائم . فتفكري بفهم وديعة نفسك أن تكوني شبه النساء في الجزع ، كما كنت لا أرضى شبه الرجال في الاستكانة والضعف ، ولم يكن ذلك يرضيك في . ثم مات رحمه الله . وروي عن كعب الأحبار أنه قال لمعاوية : إن ذا القرنين لما حضرته الوفاة أوصى أمه ; إذا هو مات أن تصنع طعاما ، وتجمع نساء أهل المدينة وتضعه بين أيديهن ، وتأذن لهن فيه ، إلا من كانت ثكلى ، فلا تأكل منه شيئا ، فلما فعلت ذلك لم تضع واحدة منهن يدها فيه ، فقالت لهن : سبحان الله! كلكن ثكلى! فقلن : أي والله ما منا إلا من أثكلت . فكان ذلك تسلية لأمه . فلما حمل تابوته إليها تلفتت بعظماء أهل المملكة ، فلما رأته قالت: يا ذا الذي بلغ السماء حلمه ، وجاز أقطار الأرض ملكه ، ودانت الملوك عنوة له ، ما لك اليوم نائما لا تستيقظ ، وساكتا لا تتكلم ، من بلغك عني بأنك وعظتني فاتعظت ، وعزيتني فتعزيت ، فعليك السلام حيا وميتا . ثم أمرت بدفنه .
عمر ذو القرنين واختلف في
قدر عمره ، فذكر عن أهل الكتاب أنه عاش ثلاثة آلاف سنة . وذكر أبو بكر بن أبي خيثمة أنه عاش ألفا وستمائة سنة .
فأما من يقول: عاش نحوا من أربعين سنة فإنما اشتبه عليه بالإسكندر اليوناني ، وعند ابن الأثير في كتابه الكامل ورجع إلى العراق فمات في طريقه بشهرزور بعلة الخوانيق ، وكان عمره ستا وثلاثين سنة في قول ، ودفن في تابوت من ذهب مرصع بالجواهر ، وطلي بالصبر لئلا يتغير وحمل إلى أمه بالإسكندرية .
وكان ملكه أربع عشرة سنة ، وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه . وبنى اثنتي عشرة مدينة ، منها : أصبهان ، وهي التي يقال لها جي ، ومدينة هراة ، ومرو ، وسمرقند ، وبنى بالسواد مدينة لروشنك ابنة دارا ، وبأرض اليونان مدينة ، وبمصر الإسكندرية .
فلما مات الإسكندر طاف به من معه من الحكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم ، فكان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم ، فوقفوا عليه ، فقال كبيرهم : ليتكلم كل واحد منكم بكلام يكون للخاصة معزيا وللعامة واعظا ، ووضع يده على التابوت ، وقال : أصبح آسر الأسراء أسيرا . وقال آخر : هذا الملك كان يخبئ الذهب فقد صار الذهب يخبؤه . وقال آخر : ما أزهد الناس في هذا الجسد وما أرغبهم في التابوت . وقال آخر : من أعجب العجب أن القوي قد غلب ، والضعفاء لاهون مغترون . وقال آخر : هذا الذي جعل أجله ضمانا وجعل أمله عيانا ، هلا باعدت من أجلك لتبلغ بعض أملك ، بل هلا حققت من أملك بالامتناع من فوت أجلك . وقال آخر : أيها الساعي المنتصب ، ما خذلك عند الاحتياج إليه ، فغودرت عليك أوزاره ، وقارفت آثامه ، فجمعت لغيرك وإثمه عليك .
وقال آخر : قد كنت لنا واعظا فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك ، فمن كان له معقول فليعقل ، ومن كان معتبرا فليعتبر .
وقال آخر : رب هائب لك يخافك من ورائك وهو اليوم بحضرتك ولا يخافك .
رب حريص على سكوتك إذ لا تسكت ، وهو اليوم حريص على كلامك إذ لا تتكلم .
وقال آخر : كم أماتت هذه النفس لئلا تموت وقد ماتت .
وقال آخر ، وكان صاحب كتب الحكمة : قد كنت تأمرني أن لا أبعد عنك فاليوم لا أقدر على الدنو منك .
وقال آخر : هذا يوم عظيم أقبل من شره ما كان مدبرا ، وأدبر من خيره ما كان مقبلا ، فمن كان باكيا على من زال ملكه فليبك .
وقال آخر : يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحل ظل السحاب ، وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذباب .
وقال آخر : يا من ضاقت عليه الأرض طولا وعرضا ليت شعري كيف حالك بما احتوى عليك منها !
وقال آخر : اعجبوا ممن كان هذا سبيله كيف شهر نفسه بجمع الأموال الحطام البائد ، والهشيم النافذ . وقال آخر : أيها الجمع الحافل ، والملقى الفاضل لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره ، وتنقطع لذته ، فقد بان لكم الصلاح ، والرشاد من الغي والفساد . وقال آخر انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى ، وظل الغمام كيف انجلى .
وقال آخر : يا من كان غضبه الموت هلا غضبت على الموت !
وقال آخر : قد رأيتم هذا الملك الماضي فليتعظ به هذا الملك الباقي .
وقال آخر : إن الذي كانت الآذان تنصت له قد سكت فليتكلم الآن كل ساكت .
وقال آخر : سيلحق بك من سره موتك كما لحقت بمن سرك موته .
وقال آخر : ما لك لا تقل عضوا من أعضائك وقد كنت تستقل بملك الأرض ! بل ما لك لا ترغب عن ضيق المكان الذي أنت فيه وقد كنت ترغب عن رحب البلاد !
وقال آخر : إن دنيا يكون هذا في آخرها فالزهد أولى أن يكون في أولها .
وقال صاحب مائدته : قد فرشت النمارق ، ونضدت النضائد ، ولا أرى عميد القوم . وقال صاحب بيت ماله : قد كنت تأمرني بالادخار فإلى من أدفع ذخائرك ؟
وقال آخر : هذه الدنيا الطويلة العريضة قد طويت منها سبعة أشبار ولو كنت بذلك موقنا لم تحمل على نفسك في الطلب .
وقالت زوجته روشنك : ما كنت أحسب أن غالب دارا يغلب ، فإن الكلام الذي سمعت منكم فيه شماتة ، فقد خلف الكأس الذي شرب منه ليشربه الجماعة . وقالت أمه حين بلغها موته : لئن فقدت من ابني أمره لم يفقد من قلبي ذكره .
فهذا كلام الحكماء فيه مواعظ وحكم حسنة فلهذا أثبتها .