تحريف أهل الكتاب وتبديلهم أديانهم
أما اليهود فقد أنزل الله عليهم التوراة على يدي موسى بن عمران عليه السلام وكانت كما قال الله تعالى
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء [ الأنعام : 154 ] وقال تعالى
قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا [ الأنعام : 91 ] وقال تعالى
ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين [ الأنبياء : 48 ] وقال تعالى
وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم [ الصافات : 117 ، 118 ] وقال تعالى
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] فكانوا يحكمون بها وهم متمسكون بها برهة من الزمان ، ثم شرعوا في تحريفها وتبديلها وتغييرها وتأويلها وإبداء ما ليس منها ، كما قال الله تعالى
وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون [ آل عمران : 78 ] فأخبر تعالى أنهم يفسرونها ويئولونها ، ويضعونها على غير مواضعها . وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء وهو أنهم يتصرفون في معانيها ويحملونها على غير المراد ، كما بدلوا حكم الرجم والتحميم مع بقاء لفظ الرجم فيها ، وكما أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، واذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، مع أنهم مأمورون باقامة الحد والقطع على الشريف والوضيع .
تبديل اليهود لألفاظ التوراة فأما تبديل ألفاظها ; فقال قائلون بأنها جميعها بدلت ، وقال آخرون : لم تبدل ، واحتجوا بقوله تعالى
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله [ المائدة : 43 ] وقوله
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات [ الأعراف : 157 ] الآية . وبقوله
قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [ آل عمران : 93 ] وبقصة الرجم فإنهم - كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر ، وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب ، وجابر بن عبد الله ، وفي السنن عن أبي هريرة وغيره -
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509900لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة اليهودي واليهودية اللذين زنيا فقال لهم : " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ " فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراة فلما جاءوا بها وجعلوا يقرءونها ويكتمون آية الرجم التي فيها ، ووضع عبد الله بن صوريا يده على آية الرجم ، وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارفع يدك يا أعور " فرفع يده فاذا فيها آية الرجم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما ، وقال : " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " . وعند أبي داود أنهم لما جاءوا بها نزع الوسادة من تحته فوضعها تحتها ، وقال : آمنت بك وبمن أنزلك . وذكر بعضهم أنه قام لها . ولم أقف على إسناده . والله أعلم .
وهذا كله يشكل على ما يقوله كثير من المتكلمين وغيرهم : إن التوراة انقطع تواترها في زمن بختنصر ، ولم يبق من يحفظها إلا العزير ، ثم العزير إن كان نبيا فهو معصوم والتواتر إلى المعصوم يكفي ، اللهم إلا أن يقال : إنها لم تتواتر إليه ، لكن بعده زكريا ويحيى وعيسى ، وكلهم كانوا متمسكين بالتوراة فلو لم تكن صحيحة معمولا بها ، لما اعتمدوا عليها وهم أنبياء معصومون ، ثم قد قال الله تعالى فيما أنزل على رسوله محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى جميع الأنبياء منكرا على اليهود في قصدهم الفاسد إذ عدلوا عما يعتقدون صحته عندهم - وأنهم مأمورون به حتما - إلى التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يعاندون ما جاء به ، لكن لما كان - في زعمهم - ما قد يوافقهم على ما ابتدعوه من الجلد والتحميم المصادم لما أمر الله به حتما ، وقالوا : إن حكم لكم بالجلد والتحميم فاقبلوه ، وتكونون قد اعتذرتم بحكم نبي لكم عند الله يوم القيامة ، وإن لم يحكم لكم بهذا بل بالرجم فاحذروا أن تقبلوا منه .
فأنكر الله تعالى عليهم في هذا القصد الفاسد الذي إنما حملهم عليه الغرض الفاسد ، وموافقة الهوى لا الدين الحق فقال
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله [ المائدة : 43 ، 44 ] الآية . ولهذا لما حكم بالرجم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509901اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " وسألهم ما حملهم على هذا ؟ ولم تركوا أمر الله الذي بأيديهم ؟ فقالوا : إن الزنا قد كثر في أشرافنا ، ولم يمكنا أن نقيمه عليهم ، وكنا نرجم من زنى من ضعفائنا فقلنا : تعالوا إلى أمر نصف نفعله مع الشريف والوضيع فاصطلحنا على الجلد والتحميم فهذا من جملة تحريفهم وتبديلهم وتغييرهم وتأويلهم الباطل . وهذا إنما فعلوه في المعاني ، مع بقاء لفظ الرجم في كتابهم ، كما دل عليه الحديث المتفق عليه .
فلهذا قال من قال هذا من الناس : إنه لم يقع تبديلهم إلا في المعاني وإن الألفاظ باقية ، وهي حجة عليهم ، إذ لو أقاموا ما في كتابهم جميعه ; لقادهم ذلك إلى اتباع الحق ، ومتابعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ الأعراف : 157 ] الآية وقال تعالى
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة [ المائدة : 66 ] الآية وقال تعالى
قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل اليكم من ربكم [ المائدة : 68 ] الآية . وهذا المذهب وهو القول بأن التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها - حكاه البخاري عن ابن عباس في آخر كتابه " الصحيح " وقرر عليه ولم يرده ، وحكاه العلامة الإمام فخر الدين الرازي في " تفسيره " عن أكثر المتكلمين .
مس الجنب للتوراة وذهب فقهاء الحنفية إلى أنه لا يجوز
للجنب مس التوراة وهو محدث ، وحكاه الحناطي في فتاويه عن بعض أصحاب الشافعي وهو غريب جدا . وذهب آخرون من العلماء إلى التوسط في هذين القولين منهم شيخنا الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فقال : أما من ذهب إلى أنها كلها مبدلة من أولها إلى آخرها ، ولم يبق منها حرف إلا بدلوه فهذا بعيد ، وكذا من قال : لم يبدل شيء منها بالكلية بعيد أيضا والحق أنه دخلها تبديل وتغيير ، وتصرفوا في بعض ألفاظها بالزيادة والنقص كما تصرفوا في معانيها . وهذا معلوم عند التأمل ، ولبسطه موضع آخر . والله أعلم . كما في قولهم في قصة الذبيح : اذبح ابنك وحيدك ، وفي نسخة : بكرك إسحاق فلفظة إسحاق مقحمة مزيدة بلا مرية ; لأن الوحيد - وهو البكر - إسماعيل لأنه ولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة فكيف يكون الوحيد البكر إسحاق ؟! ! وإنما حملهم على ذلك حسد العرب أن يكون أبوهم هو الذبيح فأرادوا أن يذهبوا بهذه الفضيلة لهم فزادوا ذلك في كتاب الله افتراء على الله وعلى رسوله ، وقد اغتر بهذه الزيادة خلق كثير من السلف والخلف ، ووافقوهم على أن الذبيح إسحاق والصحيح أن الذبيح إسماعيل كما قدمنا . والله أعلم .
وهكذا في توراة السامرة في العشر الكلمات زيادة الأمر بالتوجه إلى الطور في الصلاة ، وليس ذلك في سائر نسخ اليهود والنصارى ، وهكذا يوجد في الزبور المأثور ، عن داود عليه السلام مختلفا كثيرا ، وفيه أشياء مزيدة ملحقة فيه ، وليست منه . والله أعلم . قلت : وأما ما بأيديهم من
التوراة المعربة فلا يشك عاقل في تبديلها ، وتحريف كثير من ألفاظها ، وتغيير القصص والألفاظ والزيادات والنقص البين الواضح ، وفيها من الكذب البين والخطأ الفاحش شيء كثير جدا فأما ما يتلونه بلسانهم ، ويكتبونه بأقلامهم فلا اطلاع لنا عليه والمظنون بهم أنهم كذبة خونة يكثرون الفرية على الله ورسله وكتبه .
تحريف النصارى وضلالهم وأما
النصارى فأناجيلهم الأربعة من طرق مرقس ولوقا ومتى ويوحنا ، أشد اختلافا وأكثر زيادة ونقصا وأفحش تفاوتا من التوراة وقد خالفوا أحكام التوراة والإنجيل في غير ما شيء قد شرعوه لأنفسهم ، فمن ذلك صلاتهم إلى الشرق ، وليست منصوصا عليها ولا مأمورا بها في شيء من الأناجيل الأربعة ، وهكذا تصويرهم كنائسهم ، وتركهم الختان ، ونقلهم صيامهم إلى زمن الربيع ، وزيادته فيه إلى خمسين يوما ، وأكلهم الخنزير ، ووضعهم الأمانة الكبيرة ، وإنما هي الخيانة الصغيرة الحقيرة ، والرهبانية ، وهي ترك التزويج لمن أراد التعبد ، وتحريمه عليه ، وكتبهم القوانين التي وضعتها لهم الأساقفة الثلاثمائة والثمانية عشر .
فكل هذه الأشياء ابتدعوها ، ووضعوها في أيام قسطنطين بن قسطس باني القسطنطينية وكان زمنه بعد المسيح بثلاثمائة سنة وكان أبوه أحد ملوك الروم ، وتزوج أمه هيلانة في بعض أسفاره للصيد من بلاد حران وكانت نصرانية على دين الرهابين المتقدمين فلما ولد لها منه قسطنطين المذكور تعلم الفلسفة ومهر فيها ، وصار فيه ميل بعض الشيء إلى النصرانية التي أمه عليها فعظم القائمين بها بعض الشيء وهو على اعتقاد الفلاسفة فلما مات أبوه ، واستقل هو في المملكة سار في رعيته سيرة عادلة فأحبه الناس وساد فيهم ، وغلب على ملك الشام بأسره مع الجزيرة ، وعظم شأنه .
وكان أول القياصرة ، ثم اتفق اختلاف في زمانه بين النصارى ، ومنازعة وقعت بين بطريق الإسكندرية إكصندروس وبين رجل من علمائهم يقال له : عبد الله بن أريوس فذهب إكصندروس إلى أن عيسى ابن الله ، - تعالى الله عن قوله - وذهب ابن أريوس إلى أن عيسى عبد الله ورسوله ، واتبعه على هذا طائفة من النصارى ، وأصفق الأكثرون الأخسرون على قول بطريقهم ، ومنع ابن أريوس من دخول الكنيسة هو وأصحابه ، فذهب يستعدي على إكصندروس وأصحابه إلى الملك قسطنطين ، فسأله الملك عن مقالته فعرض عليه عبد الله بن أريوس ما يقول في المسيح من أنه عبد الله ورسوله ، واحتج على ذلك فمال إليه ، وجنح إلى قوله فقال له قائلون : فينبغي أن تبعث إلى خصمه فتسمع كلامه فأمر الملك بإحضاره ، وطلب من سائر الأقاليم كل أسقف ، وكل من عنده علم في دين النصرانية ، وجمع البطارقة الأربعة من القدس ، وأنطاكية ورومية والإسكندرية فيقال : إنهم اجتمعوا في مدة سنة وشهرين ما يزيد على ألفي أسقف .
فجمعهم في مجلس واحد وهو المجمع الأول من مجامعهم الثلاثة المشهورة ، وهم مختلفون اختلافا متباينا منتشرا جدا فمنهم الشرذمة على المقالة التي لا يوافقهم أحد من الباقين عليها فهؤلاء خمسون على مقالة ، وهؤلاء ثمانون على مقالة أخرى ، وهؤلاء عشرة على مقالة وأربعون على أخرى ومائة على مقالة ومائتان على مقالة ، وطائفة على مقالة ابن أريوس ، وجماعة على مقالة أخرى فلما تفاقم أمرهم ، وانتشر اختلافهم حار فيهم الملك قسطنطين ، مع أنه سيئ الظن بما عدا دين الصابئين من أسلافه اليونانيين فعمد إلى أكثر جماعة منهم على مقالة من مقالاتهم فوجدهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا قد اجتمعوا على مقالة إكصندروس ، ولم يجد طائفة بلغت عدتهم فقال : هؤلاء أولى بنصر قولهم ; لأنهم أكثر الفرق فاجتمع بهم خصوصا ، ووضع سيفه وخاتمه إليهم ، وقال : إني رأيتكم أكثر الفرق قد اجتمعتم على مقالتكم هذه فأنا أنصرها وأذهب إليها فسجدوا له ، وطلب منهم أن يضعوا له كتابا في الأحكام ، وأن تكون الصلاة إلى الشرق ; لأنها مطلع الكواكب النيرة ، وأن يصوروا في كنائسهم صورا لها جثث فصالحوه على أن تكون في الحيطان فلما توافقوا على ذلك أخذ في نصرهم ، وإظهار كلمتهم وإقامة مقالتهم ، وإبعاد من خالفهم وتضعيف رأيه وقوله ، فظهر أصحابه بجاهه على مخالفهم وانتصروا عليهم ، وأمر ببناء الكنائس على دينهم ، وهم الملكية ; نسبة إلى دين الملك فبني في أيام قسطنطين بالشام وغيرها في المدائن والقرى أزيد من ثنتي عشرة ألف كنيسة ، واعتنى الملك ببناء بيت لحم يعني على مكان مولد المسيح ، وبنت أمه هيلانة قمامة بيت المقدس على مكان المصلوب الذي زعمت اليهود والنصارى بجهلهم ، وقلة عقلهم أنه المسيح عليه الصلاة والسلام ، ويقال : إنه قتل من عدا أولئك ، وخد لهم الأخاديد في الأرض ، وأجج فيها النار وأحرقهم بها ، كما ذكرناه في سورة البروج .
وعظم دين النصرانية ، وظهر أمره جدا بسبب الملك قسطنطين وقد أفسده عليهم فسادا لا صلاح له ولا نجاح معه ولا فلاح عنده ، وكثرت أعيادهم بسبب عظمائهم ، وكثرت كنائسهم على أسماء عبادهم ، وتفاقم كفرهم ، وغلظت مصيبتهم ، وتخلد ضلالهم ، وعظم وبالهم ، ولم يهد الله قلوبهم ولا أصلح بالهم بل صرف قلوبهم عن الحق ، وأمال عن الاستقامة حالهم ، ثم اجتمعوا بعد ذلك مجمعين في قضية النسطورية واليعقوبية ، وكل فرقة من هؤلاء تكفر الأخرى ، وتعتقد تخليدهم في نار جهنم ولا ترى مجامعتهم في المعابد والكنائس ، وكلهم يقول بالأقانيم الثلاثة : أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم الكلمة ، ولكن بينهم اختلاف في الحلول والاتحاد فيما بين اللاهوت والناسوت هل تدرعه أو حل فيه أو اتحد به ، واختلافهم في ذلك شديد ، وكفرهم بسببه غليظ ، وكلهم على الباطل إلا من قال من الأريوسية أصحاب عبد الله بن أريوس : إن المسيح عبد الله ورسوله وابن أمته ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . كما يقول المسلمون فيه سواء ، ولكن لما استقر أمر الأريوسية على هذه المقالة تسلط عليهم الفرق الثلاثة بالإبعاد والطرد حتى قلوا فلا يعرف اليوم منهم أحد فيما نعلم . والله أعلم .