تحيرهم في مدة مكث هذه الأمة لما سمعوا الحروف المقطعة في أوائل السور

قال ابن إسحاق- فيما ذكر لي عن عبد الله بن عباس ، وجابر بن عبد الله بن رئاب- "إن أبا ياسر بن أخطب مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يتلو فاتحة البقرة الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [البقرة 1 ، 2] ، فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من يهود ، فقال : تعلموا ، والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه : الم ذلك الكتاب ، فقالوا :

أنت سمعته؟ قال : نعم . فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له : "يا محمد ، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك الم ذلك الكتاب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بلى" . قالوا : "أجاءك بها جبريل من عند الله؟ قال : "نعم" . قالوا : "لقد بعث الله قبلك أنبياء أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك" . فقام حيي بن أخطب ، وأقبل على من معه فقال لهم : "الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، أفتدخلون في دين [نبي] إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة" ؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يا محمد هل مع هذا غيره" ؟ قال : "نعم" قال : ماذا؟ قال :

المص [الأعراف 1] قال : هذا أثقل وأطول : الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون ، فهذه إحدى وستون ومائة سنة ، هل مع هذا يا محمد غيره" ؟ قال : "نعم" . [قال :

وما ذاك؟] قال : الر [يوسف : 1] قال : "هذه أثقل وأطول : الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة فهل مع هذا غيره يا محمد" ؟ قال : "نعم" المر [الرعد 1] . قال : "هذه والله أثقل وأطول : الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة" . ثم قال : "لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا" .

ثم قاموا عنه ، فقال أبو ياسر لأخيه ولمن معه من الأحبار : "ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد : إحدى وسبعون [وإحدى وستون ومائة] ، وإحدى وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون" . فقالوا : لقد تشابه علينا أمره . فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات
[آل عمران 7] .

[قال ابن إسحاق] : "وقد سمعت من لا أتهم من أهل العلم يذكر أن هؤلاء الآيات أنزلت في أهل نجران حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن عيسى بن مريم . وقد حدثني

محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أن هؤلاء الآيات إنما أنزلن في نفر من يهود ولم يفسر ذلك لي ، فالله أعلم أي ذلك كان" . قال السهيلي : "وهذا القول من أخبار يهود ، وما تأولوه من معاني هذه الحروف محتمل حتى الآن أن يكون من بعض ما دلت عليه هذه الحروف المقطعة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكذبهم ، فيما قالوا من ذلك ولا صدقهم .

وقال في حديث آخر : "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وبرسوله"

. وإذا كان في حد الاحتمال وجب ، أي يفحص عنه في الشريعة ، هل يشير إلى كتاب أو سنة؟ فوجدنا في التنزيل وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [الحج 47] ووجدنا في حديث زمل الخزاعي حين قص على رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا قال فيها : "رأيتك يا رسول الله على منبر له سبع درجات ، وإلى جنبك ناقة عجفاء كأنك تبعثها" . ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم الناقة بقيام الساعة التي أنذر بها ، وقال في المنبر ودرجاته : "الدنيا سبعة آلاف سنة ، بعثت في آخرها ألفا" والحديث وإن كان ضعيف الإسناد ، فقد روي موقوفا عن ابن عباس من طرق صحاح أنه قال : "الدنيا سبعة أيام ، كل يوم منها ألف سنة" ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم منها ، وقد مضت [منه] سنون أو قال مئون : [قال السهيلي] : ولكن إذا قلنا : أنه عليه الصلاة والسلام بعث في الألف الأخيرة بعد ما مضت منه سنون ، ونظرنا بعد إلى الحروف المقطعة في أوائل السور وجدناها أربعة عشر حرفا يجمعها قولك : "ألم يسطع نص حق كره" ، ثم نأخذ العدد على حساب أبي جاد ، فنجد "ق" مائة و "ر" مائتين و "س" ثلاثمائة ، فهذه ستمائة ، و "ع" سبعين ، و "ص" ستين ، فهذه سبعمائة وثلاثون ، و "ن" خمسين و "ك" عشرين ، فهذه ثمانمائة و "م" أربعين و "ل" ثلاثين ، فهذه ثمانمائة وسبعون ، و "ي" عشرة و "ط" تسعة و "ا" واحدا ، فهذه ثمانمائة وتسعون ، و "ح" ثمانية و "هـ-" خمسة ، فهذه تسعمائة وثلاثة . ولم يسم الله عز وجل في أوائل السور إلا هذه الحروف ، فليس يبعد أن يكون من بعض مقتضياتها وبعض فوائدها الإشارة إلى هذا العدد من السنين ، لما قدمناه في حديث الألف السابع الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . غير أن الحساب يحتمل أن يكون من مبعثه أو من وفاته أو من هجرته ، وكل قريب بعضه من بعض ، فقد جاءت أشراط الساعة ، ولكن لا تأتيكم إلا بغتة .

وقد روي أن المتوكل العباسي سأل جعفر بن عبد الواحد القاضي ، وهو عباسي أيضا ، عما بقي من الدنيا ، فحدثه بحديث رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن أحسنت أمتي فبقاؤها يوم من أيام الآخرة وذلك ألف سنة ، وإن أساءت فنصف يوم" ،

ففي هذا الحديث تتميم للحديث المتقدم وبيان له ، إذ قد انقضت الخمسمائة والأمة باقية والحمد لله" وما ذكره في عدد الحروف مبني على طريقة المغاربة : السين بثلاثمائة ، والصاد بستين ، وعند المشارقة : السين ستون والصاد تسعون . فيكون المقدار عندهم ستمائة وثلاثة وتسعين ، وقد مضت وزيادة عليها ، فإنه في سنة خمس وثلاثين وتسعمائة ، فالجملة على ذلك من هذه الحيثية باطلة . وقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عدد أبي جاد ، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر . قال الحافظ : "وليس ببعيد ، فإنه لا أصل له في الشريعة" . وقال القاضي أبو بكر بن العربي شيخ السهيلي في

قوله صلى الله عليه وسلم : "بعثت أنا والساعة كهاتين" ،

وأشار بالسبابة والوسطى .
قيل : الوسطى تزيد على السبابة بنصف سبع إصبع ، وكذلك الباقي من البعثة إلى قيام الساعة" . قال "وهذا بعيد ، ولا يعلم مقدار الدنيا ، فكيف يتحصل لنا نصف سبع أمد مجهول؟ فالصواب الإعراض عن ذلك" . وقال القاضي في "الإكمال" : "حاول بعضهم في تأويله أن نسبة ما بين الإصبعين كنسبة ما بقي من الدنيا إلى ما مضى ، وأن جملتها سبعة آلاف سنة ، واستند إلى أخبار لا تصح ، وذكر ما أخرجه أبو داود في تأخر هذه الأمة نصف يوم ، وفسره بخمسمائة سنة ، فيؤخذ من ذلك نصف سبع ، وهو قريب مما يلي السبابة والوسطى في الطول" . قال : "وقد ظهر عدم صحة ذلك لوقوع خلافه ومجاوزة هذا المقدار ، ولو كان ذلك ثابتا لم يقع خلافه" . انتهى .

وقد انضاف إلى ذلك منذ عهد القاضي إلى هذا الحين نحو الأربعمائة سنة . وقال ابن العربي أيضا في فوائد رحلته : "ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور ، وقد تحصل لي فيها عشرون قولا وأزيد ، ولا أعرف أحدا يحكم عليها بعلم ، ولا يصل فيها إلى فهم" إلى آخر ما ذكره . وقد ذكرته مع فوائد أخرى في الكلام على هذه الحروف في كتابي : "القول الجامع الوجيز الخادم للقرآن العزيز" . لا توجد مجموعة في غيره .

وقال الحافظ : "وأما عدد الحروف ، فإنما جاء عن بعض اليهود ، وعلى تقدير أن يكون ما ذكر في عدد الحروف ، فليحمل على جميع الحروف الواردة ولا يحذف المكرر ، فإنه ما من حرف إلا وله سر يخصه ، أو يقتصر على حذف المكرر من أسماء السور ولو تكررت الحروف فيها ، فإن السور التي ابتدئت بذلك تسع وعشرون سورة ، وعدد حروف الجميع ثمانية وستون حرفا وهي : الم : ستة ، وحم : سبعة ، والر : خمسة ، وطسم : اثنتان والمص وكهيعص وطه وطس ويس وص وق ون . فإذا حذف ما كرر من السور وهي خمس من الم وست من حم ، وأربع من الر وواحدة من طسم ، بقي أربع عشرة سورة عدد حروفها ثمانية وثلاثون حرفا .

فإذا حسبت عددها بالجمل المغربي بلغت ألفين وستمائة وأربعة وعشرين ، وأما بالجمل المشرقي فتبلغ ألفا وسبعمائة وأربعة وخمسين . قال الحافظ : "ولم أذكر ليعتمد عليه ، وإنما ليتبين أن الذي جنح إليه السهيلي لا ينبغي الاعتماد عليه لشدة التخالف فيه" .

وفي جامع معمر عن مجاهد وعكرمة في قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [المعارج 4] لا يدري كم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل .

التالي السابق


الخدمات العلمية