رجوعهم إليه صلى الله عليه وسلم في عقوبة الزاني وما ظهر في ذلك من كتمانهم ما أنزل الله عز وجل في التوراة من حكمه وصفة نبيه صلى الله عليه وسلم

روى ابن إسحاق وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وعبد الرزاق ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن جرير ، والبيهقي في "الدلائل" من وجه آخر عنه ، وأحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنحاس في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب ، والشيخان عن ابن عمر ، وابن جرير ، والطبراني عن ابن عباس ، وعبد بن حميد في مسنده ، وأبو داود ، وابن ماجه وابن المنذر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد زنى رجل بعد إحصان بامرأة من يهود قد أحصنت- قال جابر : من أهل فدك ، كتب أهلها إلى أناس من يهود المدينة "أن سلوا محمدا عن ذلك ، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه ، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه" . انتهى . قال أبو هريرة : فلما اجتمعوا في بيت المدراس قال : ابعثوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد ، وفي لفظ : اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه بعث بتخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك . وفي رواية : فقالوا : ولوه الحكم فيهما ، فإن عمل فيهما بعملكم من التجبية- وهي الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ثم تسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين وتجعل وجوههما من قبل أدبار الحمارين- فاتبعوه فإنما هو ملك سيد قوم ، وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنه نبي ، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه .

فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : "يا أبا القاسم هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت ، فاحكم فيهما فقد وليناك الحكم فيهما" . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تجدون في التوراة؟" قالوا : نفضحهما ويجلدان .
وفي رواية قالوا : دعنا من التوراة وقل ما عندك . فأفتاهم بالرجم ، فأنكروه . فلم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أتى بيت مدراسهم ، فقام على الباب فقال : "يا معشر يهود أخرجوا إلي علماءكم" . فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا ، فقالوا : إن هؤلاء علماؤنا .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنشدكم الله الذي أنزل التوراة على موسى ، ما تجدون في التوراة

على من زنى بعد إحصان؟ قالوا : يحمم ويجبب . فقال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها آية الرجم . فأتوه بالتوراة فنشروها ، فوضع [أحدهم] يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك . فرفعها ، فإذا آية الرجم تلوح . قال : صدق محمد .
وفي رواية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقسم عليهم بالله عز وجل سكت شاب منهم ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به المسألة ، فقال : إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "فما أول ما رخصتم أمر الله عز وجل؟" قال : زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم . ثم زنى رجل في أسرة من الناس ، فأرادوا رجمه فحال قومه دونه وقالوا : والله لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه ، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم . وفي رواية : أن الزنى كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئا ونقيمه على الشريف والوضيع . فأجمعنا على التحميم والجلد ، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون إنك نبي مرسل ، ولكنهم يحسدونك .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه قديما بالشهوة" .

فجاؤوا بأربعة شهود ، فشهدوا بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما فرجما عند باب مسجده ،
وفي رواية : بالبلاط . قال ابن عمر : فرأيت الرجل يجنئ على المرأة ليقيها الحجارة ، وفي لفظ : فكنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقيها الحجارة بنفسه .

قال الزهري : وبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا [ المائدة : 44 ] . وله شاهد في " الصحيحين " عن ابن عمر . قلت : وقد ذكرنا ما ورد في هذا السياق من الأحاديث عند قوله تعالى : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه [ المائدة : 41 - 43 ] . يعني الجلد والتحميم الذي اصطلحوا عليه ، وابتدعوه من عند أنفسهم ، يعني إن حكم لكم محمد بهذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا . يعني وإن لم يحكم لكم بذلك فاحذروا قبوله . قال الله تعالى ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلى أن قال وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين فذمهم الله تعالى على سوء قصدهم بالنسبة إلى اعتقادهم في كتابهم ، وإن فيه حكم الله بالرجم ، وهم مع ذلك يعلمون صحته ، ثم يعدلون عنه إلى ما ابتدعوه من الجلد والتحميم والتجبية . ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ، وجحد نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال ابن إسحاق : فأنزل الله تعالى فيهم : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي الذين بعثوا منهم من بعثوا وتخلفوا ، وأمروهم بما أمروهم به من تحريف الحكم عن مواضعه . ثم قال : يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه أي الرجم فاحذروا إلى آخر القصة . وكان ذلك مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في تحقيق الزنا منهما . وتضمنت هذه الحكومة أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان ، وأن الذمي يحصن الذمية ، وإلى هذا ذهب أحمد والشافعي ، ومن لم يقل بذلك اختلفوا في وجه هذا الحديث ، فقال مالك في غير " الموطأ " : لم يكن اليهود بأهل ذمة . والذي في " صحيح البخاري " : أنهم أهل ذمة ، ولا شك أن هذا كان بعد العهد الذي وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم ، ولم يكونوا إذ ذاك حربا ، كيف وقد تحاكموا إليه ، ورضوا بحكمه ؟ وفي بعض طرق الحديث : أنهم قالوا : اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف ، وفي بعض طرقه : أنهم دعوه إلى بيت مدراسهم ، فأتاهم وحكم بينهم ، فهم كانوا أهل عهد وصلح بلا شك .

وقالت طائفة أخرى : إنما رجمهما بحكم التوراة . قالوا : وسياق القصة صريح في ذلك ، وهذا مما لا يجدي عليهم شيئا البتة ، فإنه حكم بينهم بالحق المحض ، فيجب اتباعه بكل حال ، فماذا بعد الحق إلا الضلال .

وقالت طائفة : رجمهما سياسة ، وهذا من أقبح الأقوال ، بل رجمهما بحكم الله الذي لا حكم سواه .

وتضمنت هذه الحكومة أن أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا لا نحكم بينهم إلا بحكم الإسلام .

وتضمنت قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض لأن الزانيين لم يقرا ، ولم يشهد عليهما المسلمون ، فإنهم لم يحضروا زناهما ، كيف وفي " السنن " في هذه القصة : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود ، فجاءوا أربعة ، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة .

وفي بعض طرق هذا الحديث : فجاء أربعة منهم ، وفي بعضها : فقال لليهود : ائتوني بأربعة منكم .

وتضمنت الاكتفاء بالرجم ، وأن لا يجمع بينه وبين الجلد ، قال ابن عباس : الرجم في كتاب الله لا يغوص عليه إلا غواص ، وهو قوله تعالى : ( ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ) [ المائدة : 15 ] ، واستنبطه غيره من قوله : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) [ المائدة : 44 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية