[
نكران الرسول صلى الله عليه وسلم على ابن جحش قتاله في الشهر الحرام ] ثم سار عبد الله بالعير والأسيرين إلى المدينة ، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
«ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» . فأوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا . ويقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقف غنائم أهل نخلة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم أهل بدر ، وأعطى كل قوم حقهم . فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا .
وقالت قريش : «قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدماء ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال» . فقال : «من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة ، إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان» ؟ وقال يهود تفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله : عمرو ، عمرت الحرب ، والحضرمي حضرت الحرب ، وواقد بن عبد الله ، وقدت الحرب» .
فجعل الله تعالى ذلك عليهم لا لهم . [
نزول القرآن في فعل ابن جحش وإقرار الرسول له صلى الله عليه وسلم في فعله ] فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم :
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ، قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل [البقرة 217] . أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به وعن المسجد الحرام وإخراجكم منه ، وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم . والفتنة أكبر من القتل وقد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه؛ فذلك أكبر عند الله من القتل . فالفتنة التي حصلت منكم به أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام ، وأكثر السلف فسروا الفتنة هاهنا بالشرك كقوله تعالى : (
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) [ البقرة : 193 ] . ويدل عليه قوله : (
ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] أي : لم يكن مآل شركهم وعاقبته ، وآخر أمرهم ، إلا أن تبرءوا منه وأنكروه .
وحقيقتها : أنها الشرك الذي يدعو صاحبه إليه ويقاتل عليه ، ويعاقب من لم يفتتن به ، ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها : (
ذوقوا فتنتكم ) قال ابن عباس : تكذيبكم .
وحقيقته ذوقوا نهاية فتنتكم ، وغايتها ، ومصير أمرها ، كقوله : (
ذوقوا ما كنتم تكسبون ) [ الزمر : 24 ] ، وكما فتنوا عباده على الشرك ، فتنوا على النار ، وقيل لهم : ذوقوا فتنتكم ، ومنه قوله تعالى : (
إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ) [ البروج : 10 ] ، فسرت الفتنة هاهنا بتعذيبهم المؤمنين ، وإحراقهم إياهم بالنار ، واللفظ أعم من ذلك ، وحقيقته : عذبوا المؤمنين ليفتتنوا عن دينهم ، فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين .
وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه ، أو يضيفها رسوله إليه كقوله : (
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ) ، وقول موسى : (
إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) [ الأعراف : 155 ] فتلك بمعنى آخر ، وهي بمعنى الامتحان ، والاختبار ، والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر ، بالنعم والمصائب ، فهذه لون ، وفتنة المشركين لون ، وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر ، والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية ، وبين أهل الجمل وصفين ، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ، ويتهاجروا لون آخر ، وهي الفتنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001932ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ) . وأحاديث الفتنة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين ، هي هذه الفتنة .
وقد تأتي الفتنة مرادا بها المعصية كقوله تعالى : (
ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) [ التوبة : 49 ] ، يقوله الجد بن قيس ، لما ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، يقول : ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعرضي لبنات بني الأصفر ، فإني لا أصبر عنهن ، قال تعالى : (
ألا في الفتنة سقطوا ) [ التوبة : 49 ] أي : وقعوا في فتنة النفاق ، وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر .
والمقصود : أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام ، بل أخبر أنه كبير وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد
القتال في الشهر الحرام ، فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة ، لا سيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك ، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات ، والهجرة مع رسوله ، وإيثار ما عند الله ، فهم كما قيل :
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح ، ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن . فلما نزل القرآن بهذا الأمر ، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة أو خمسها والأسيرين .
وبعث إليه قريش في فداء الأسيرين
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«لا نفديكموها حتى يقدم صاحبانا- يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان- فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم» .
فقدم سعد وعتبة ، فأفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين عند ذلك بأربعين أوقية كل أسير ، فأما الحكم بن كيسان ، فأسلم وحسن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا . وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات كافرا .