تبدي إبليس لقريش في صورة سراقة بن مالك

قال ابن إسحاق وغيره : ولما فرغوا من جهازهم ، وأجمعوا المسير ، وخرجوا على الصعب والذلول ، معهم القيان والدفوف ، ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الدماء وكان سبب ذلك أن ابنا لحفص بن الأخيف ، أحد بني معيص بن عامر بن لؤي ، خرج يبتغي ضالة له بضجنان ، وهو غلام حدث في رأسه ذؤابة ، وعليه حلة له ، وكان غلاما وضيئا نظيفا ، فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح ، أحد بني يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وهو بضجنان ، وهو سيد بني بكر يومئذ ، فرآه فأعجبه ؛ فقال : من أنت يا غلام ؟ قال : أنا ابن لحفص ابن الأخيف القرشي . فلما ولى الغلام ، قال عامر بن زيد : يا بني بكر ، ما لكم في قريش من دم ؟ قالوا : بلى والله ، إن لنا فيهم لدماء ، قال : ما كان رجل ليقتل هذا الغلام برجله إلا كان قد استوفى دمه . قال : فتبعه رجل من بني بكر ، فقتله بدم كان له في قريش ، فتكلمت فيه قريش ، فقال عامر بن يزيد : يا معشر قريش قد كانت لنا فيكم دماء ، فما شئتم . إن شئتم فأدوا علينا ما لنا قبلكم ، ونؤدي ما لكم قبلنا ، وإن شئتم فإنما هي الدماء : رجل برجل ، فتجافوا عما لكم قبلنا ، ونتجافى عما لنا قبلكم ، فهان ذلك الغلام على هذا الحي من قريش ، وقالوا : صدق ، رجل برجل .

فلهوا عنه ، فلم يطلبوا به . قال : فبينما أخوه مكرز بن حفص بن الأخيف يسير بمر الظهران ، إذ نظر إلى عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح على جمل له ، فلما رآه أقبل إليه حتى أناخ به ، وعامر متوشح سيفه ، فعلاه مكرز بسيفه حتى قتله ، ثم خاض بطنه بسيفه ، ثم أتى به مكة ، فعلقه من الليل بأستار الكعبة . فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد بن عامر معلقا بأستار الكعبة ، فعرفوه ؛ فقالوا : إن هذا لسيف عامر بن يزيد ، عدا عليه مكرز بن حفص فقتله ، فكان ذلك من أمرهم . فبينما هم في ذلك من حربهم ، حجز الإسلام بين الناس ، فتشاغلوا به ، حتى أجمعت قريش المسير إلى بدر فذكروا الذي بينهم وبين بني بكر فخافوهم .

فقالوا : إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا ، وكان ذلك يثنيهم فتبدى لهم عدو الله إبليس لعنه الله في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني ، وكان من أشراف بني كنانة فقال لهم : لا غالب لكم اليوم من الناس ، وإني جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه ، فخرجوا والشيطان جار لهم لا يفارقهم ، فلما تعبئوا للقتال ، ورأى عدو الله جند الله قد نزلت من السماء ، فر ونكص على عقبيه ، فقالوا : إلى أين يا سراقة ؟ ألم تكن قلت : إنك جار لنا لا تفارقنا ؟ فقال : إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب ، وصدق في قوله : إني أرى ما لا ترون ، وكذب في قوله : إني أخاف الله ، وقيل : كان خوفه على نفسه أن يهلك معهم ، وهذا أظهر .

ولما رأى المنافقون ومن في قلبه مرض قلة حزب الله وكثرة أعدائه ، ظنوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة ، وقالوا : ( غر هؤلاء دينهم ) [ الأنفال : 49 ] ، فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل عليه لا بالكثرة ، ولا بالعدد ، والله عزيز لا يغالب ، حكيم ينصر من يستحق النصر ، وإن كان ضعيفا ، فعزته وحكمته أوجبت نصر الفئة المتوكلة عليه . فخرجوا سراعا في خمسين وتسعمائة مقاتل ، وقيل : في ألف ، ولم يتخلف عنهم من أشرافهم أحد سوى أبي لهب ، وحشدوا فيمن حولهم من قبائل العرب ، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي ، فلم يخرج معهم منهم أحد ، خرجوا من ديارهم كما قال الله تبارك وتعالى : بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله [الأنفال : 47] .

قال ابن عقبة وابن عائذ : وأقبل المشركون ، ومعهم إبليس يعدهم أن بني كنانة وراءه قد أقبلوا لنصرهم ، وأنه لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم [الأنفال : 48] فلم يزل حتى أوردهم ، ثم سلمهم ، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه من أبيات :


سرنا وساروا إلى بدر لحينهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا     دلاهم بغرور ثم أسلمهم
إن الخبيث لمن والاه غرار     وقال : إني لكم جار فأوردهم
شر الموارد فيه الخزي والعار     ثم التقينا فولوا عن سراتهم
من منجدين ومنهم فرقة غاروا



قال في الإمتاع : فلما نزلوا بمر الظهران نحر أبو جهل جزورا فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها ، ورأى ضمضم بن عمرو أن وادي مكة يسيل دما من أسفله وأعلاه ، وكان مع المشركين مائتا فرس يقودونها وست مائة درع ، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ، ونحر لهم أول يوم خرجوا من مكة أبو جهل عشر جزائر ، ثم نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعا ، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشرا -وأسلم بعد ذلك- ومالوا من قديد إلى مياه نحو البحر ، فظلوا فيها وأقاموا بها ، فنحر لهم يومئذ عتبة بن ربيعة عشرا ، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم منبه ونبيه ابنا الحجاج عشرا ، ثم أكلوا من أزوادهم فلما وصلوا إلى الجحفة عشاء نزلوا هناك .

التالي السابق


الخدمات العلمية